حرب تركية فنية جديدة بل هي الأولى من نوعها بين جبهة الإسلام المتشدد الذي يلعن أتاتورك (والمتمثل بالسلطة الحاكمة) وبين الدولة العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك و(المتمثلة بالأصوات الخافتة خوفاً من الامبراطور الجديد رجب الطيب أردوغان) وهم من ذوي الصوت المنخفض جداً في زمن الامبراطور الأول بعد سقوط آخر امبراطور بعد انتصار أتاتورك على الحلفاء.
وكان الرئيس التركي زار لأول مرة في تاريخ الدراما التركية موقع تصوير مسلسل (أرطغرول) الذي ينتجه (حزب العدالة والتنمية) الذي يقوده (حزب إسلامي) ويعرضه لصالح تعبئة دينية إسلامية في زمن داعش وأخوانها. ما يؤشر إلى سياسة غير حكيمة أو أنها مدروسة بدقة وبحكمة “أردوغانية” داعشية وبامتياز.
كنت كتبت عن مسلسل (أرطغرول) وتوقعت ما تقرأونه في هذا اللينك الأزرق قبل محاولة الانقلاب على الرئيس التركي تحت عنوان (قيامة أرطغرل ضربة في كبد علمنة تركيا وأتاتورك).
وكما تلاحظون تاريخ المقالة كان في 30 أيار- مايو 2016 أي قبل محاولة الإنقلاب بأسابيع قليلة أي محاولة الانقلاب التي حدثت بتاريخ15 تموز- يوليو – 2016.
مسلسل أرطغرول عاد بعد محاولة الإنقلاب إلى الشاشة في جزء جديد منه وفي حلقات تمجد الامبراطورية العثمانية من خلال عرض بطولات صناعها أي مؤسسي الامبراطورية في القرن الثالث عشر أي منذ سليمان شاه وابنه أرطغرول الذي (مات عام 1280) والذي ورثه ابنه (عثمان الأول) أول سلطان عثماني.
النَفَس الديني المتعصِّب هو البارز بقوة هذه المرة أكثر بكثير من الحلقات السابقة، إذ لا تمر حلقة دون مشاهِدَ دينية طويلة تمجد الإسلام وتلعن الديانات السماوية الأخرى في مشاهد تقدم كل أنواع الإساءات المباشرة وغير المباشرة لكل الديانات ولا يتورع كاتب السيناريو عن تسمية المسيحيين علناً بالكفار تماماً كما لغة الأصوليين الاسلاميين من الدواعش وأخوانها الآن في كل العالم.
حلقة الأسبوع الماضي مر فيها مشهد غريب على المستوى الدرامي حيث يشتبك أحد أبطال أرطغرول مع مجموعة من (الكفار) كما يسمونهم في المسلسل وهم من الأخوان المسيحيين، فيقطعون المقاتل الأرطغرولي بالسيف وبضربات فاقت العشر كي لا يستطيع الوصول إلى سيده أرطغرول ويخبره بما رآه ويشهد على الخائن والعميل التركي (أورال) لكن وبقوة خرافية يتمكن الجريح من ركوب حصانه وقطع مسافة طويلة ليصل إلى خيمة في قبيلة (الكاي) ويظل حياً يشهق ويزفر أيضاً بطريقة تخلو من أدنى معايير الفن، إلى أن يصل قائده أرطغرل وكنا ننتظر أن يتمم المقاتل الجريح مهمته المقدسة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أي أن يكشف عن اسم الخائن (أورال)..
لكن البطل نسي واجبه وبلغة درامية فيها الكثير من الاستهتار بعقل المشاهد، وبدل أن يقوم الجريح بواجبه القومي وينطق باسم الخائن وهو عبارة عن كلمة واحدة أي (أورال) ينظر بطريقة دراماتيكية عجيبة إلى أرطغرول ويقول الشهادتين في 11 عبارة ويموت على الفور دون أن يسأله أرطغرول عن اسم الخائن بل يدمع بطريقة تراجيدية غير مقنعة وكأن المقاتل هو ابنه الوحيد!
هذا المشهد وغيره من المشاهد الدينية المبالغ بها أو المشغولة بهدف التعبئة العامة كخطاب وجداني مؤثر لكنه غير حقيقي وواحدة من الدلالات الدور الذي أراد الكاتب أن يلبسه لأحد أهم فلاسفة الإسلام قاطبة وهو (ابن العربي) الصوفي واليلسوف العظيم الذي حولوه إلى ساحر مقيت يلتقط ما يجري من أحداث عن بعد ويقيم الميْت من القبر، عبر مشاهد من الصلوات تهين الدين الحنيف بعقلانيته وما يه من علم ومنطق، وكل ذلك بهدف التلاعب بعواطف العامة من غير المتشددين لتصنع منهم منقلبين على انتصارات أحد أعظم رجالات تركيا وهو كمال أتاتورك صانع (تركيا الفتاة) وتحت مسمى الإسلام. هذا عدا عن التحريف والكذب في نقل الوقائع التاريخية وتجاهل دور العرب في تلك الحقبة.
وفجأة ومع الجزء الجديد لأرطغرول أطل مسلسل (أنت وطني) بطولة (خالد أرغنتش) المعروف بالسلطان سليمان وزوجته الحقيقية كما هي زوجته في مسلسل (أنت وطني) بيرجوزار كوريل.
المسلسل الذي يقدم حكاية عن حقبة من التاريخ التركي وكيف تمكن المناضلون إلى جانب قائدهم مصطفى كمال أتاتورك من الانتصار على الحلفاء بدءاً بعد أن بدأ ثورته العام 1919 وكانت تركيا تعرضت لهزيمة نكراء على يد الحلفاء وخيانات في صفوف جنودها الذين تآمروا على السلطان وباعوا مناطق بأسرها مقابل حفنات من الذهب.
مع إطلالة (أنت وطني) قبل عشرة أسابيع والذي تمكن من التفوق على جميع الأعمال الدرامية التركية لم ننتبه إلى الهدف منه قبل مرور الحلقة الخامسة حين يتلقى العميد جودت (خالد ارجنش) والذي يندس في صفوف الجيش اليوناني كقائد يقاتل الأتراك لصالح العدو لكنه في الحقيقة يؤدي واجباً قومياً من طراز (العربي المصري رأفت الهجان) حيث تمرر رسالة سرية للعميد جودت (خالد أرجنش) بأن مصطفى كمال تحرك مع ثواره من اسطنبول فيبتسم ويردد بعبارة قصيرة خاطفة قائلاً:
(آه يا كمال هذا أنت كما عرفتك دائماً.) ويبتسم ليمر المشهد وكأنما كمال أتاتورك كان آنذاك “بياع ترمس”!
ينتهي ذكر البطل التركي الأشهر كمال مصطفى أتاتورك هنا في هذا المشهد الخاطف وفي هذه الحلقة ليغيب بعدها ولم نكن ندرك أن صناع العمل يدسون نبض الرقابة التركية، وبدا ذلك واضحاً حين اختفى اسم كمال أتاتورك نهائياً من الحلقات التالية رغم أهمية حضورة بالذكر على الأقل لضرورة السياق الدرامي الذي يتوجب عليه إخبارنا بحركة أتاتورك وأين وصل بثواره وكيف سيتم تأمين السلاح الراسي في سفينة (أفتاليا) تحت قبضة خائن تركي.. ورغم ذلك (قتلوا أتاتورك في الحلقات ولا يزال ميتاً حتى الآن)
الغريب أن (أنت وطني) وفي مطلع كل حلقة يعفي نفسه المسلسل من المساءلة ويضع على الجينيريك هذه العبارة..bu dizide yer alan olaylar, kurumlar ve karakterler tamamen hayal urunudur ومعناها: أن الأحداث والشخصيات الواقعة في هذه السلسلة الدرامية لا تمت لأحداث ولا مؤسسات ولا لشخصيات وإنما هي شخصيات وأحداث وهمية.
لكن ورغم هذا التنويه مع بداية كل حلقة إلا أن الاحداث والشخصيات حقيقية وليست وهمية ما يدعو إلى التساؤل طويلاً:
-
– ماذا يحدث للدراما ونجومها في تركيا من محاولات تركيع لصالح الحزب الحاكم بالعسكر وعتاده!
ولأن السياق التاريخي ومعه السياق الدرامي في العمل يتطلب حضور أبطال المرحلة ورموزها ولأن اسم كمال أتاتورك كما نستتج حتى الآن ممنوع من الذكر بهدف دفنه أو اقتلاعه من ضمير الأمة فأطلت في نهاية الحلقة العاشرة المناضلة والشاعرة التركية الشهيرة (خالدة أديب) ليظل اسم أتاتورك أو أبو الأتراك في العتمة. هذا قبل عرض الحلقة الـ 11 والتي ذكرت فيها خالدة أديب اسم مصطفى كمال مرتين وجاء الرد في المشهد امتعاضاً حين ذكر اسمه من أحد المناضلين.. وهنا أيضاً نسجل إشارة استغراب جديدة!
هل يستمر مسلسل (أنت وطني) بمواجهة (أرطغرل) ليفسر للعامة والأميين من الإسلام أنتركيا ما عادت حكناً إمبراطوريا بل هي تركيا العلمانية والنظام النموذجي وإن احتلها حزب العدالة بقيادة أردوغان؟
وهل سيتمكن الفنان خالد أردغتش وفريقه من استكمال تجربته التوعوية قبالة المد الدرامي الديني الذي يؤجج نار الفتنة ولا يؤدي الغرض الجميل منه..
بل وأكثر فإني أسأل: هل سيتعرض أردغتش لمضايقات من الاستخبارات التركية وهل يوقفون عمله في ليلة ليلاء كما يتم توقيف كل الأتاتوركاكيين ومنهم من يبيعون بيونهم ويهاجرون تركيا.
نضال الأحمدية