من هو طائر البوم؟

ولماذا نتطيّر منه؟

وكلما نعق بوم نرتعب ونبدأ بالعد العكسي لوقوع مصيبة أو فاحعة؟

تشرح غادة المسان الأديبة السورية – اللبنانية الكبيرة في كتابها (ع غ تتفرّس) قائلةً:

طائر البوم بريء وجميل. يعتبر البوم عملياً من الطيور الليلية الجارحة. أي أنه يصطاد في الليل ولا يعيش من التغذي على الحبوب وإنما يعتاش على اللحوم تماماً كالنسر والعُقاب (وهما طائران نحترمها، وقد اتخذت منهما بعض الدول شعاراً لها.)

إذا فالبوم ليس مكروهاً لأنه يتغذى على اللحوم أي مثلنا ومثل النسر الذي نقدره.. فلماذا إذاً نتطير منه ونستعيذ بالله كلما سمعنا صوته؟

السبب يرجع ببساطة إلى شكله الخارجي وعاداته.

البوم بشبه طائراً واحداً هو البوم.

الانسان والبومة والتاريخ بينهما
الانسان والبومة والتاريخ بينهما

إنه كنجوم السينما تستطيع التعرف عليهم من صورهم حتى ولو لم ترهم من قبل.

إنه يشبه الإنسان. رأسه محدد المعالم. له عينان شاسعتان. نظراتُه مركزة التعبير وشبه حكيمة وحزينة. ويزيد في هذا الإنطباع اتزان حركاته كالكهول. جسده صغير جداً بالنسبة إلى مظهره، فريشه كثيف، وأجنحته طويلة بالنسبة إلى حجمه، لذا فإنهم يطيروا بهدوء وبلا صوت على الإطلاق، وهكذا الإنسان وفريسته يُفاجأ به أمام عينيه من دون أن يسمع صوتاً لطيرانه.

طيران البوم شبيه بطيران الأشباح في الأحلام، إنه يعوم أمام عينيك كالرؤية والكوابيس دونما سابق إنذار، وربما كان في ذلك ما جعل الناس يهابونه، هذا بلإضافة إلى عينيه اللتين لا تبصران جيداً في النهار، فتتسمّران في وضع يوحي للإنسان بالحكمة ومعرفة الغيب والمجهول. والحقيقة هي أن البوم المسكين يتضايق من الضوء هذا كل ما في الأمر. إنه لا يتنبأ بالمستقبل المشؤوم، وليس في وقفته الجامدة ما يُنبيء بالكوارث. إنه ببساطة كائن بريء ينتظر موعد سعيه وراء لقمته كأي صيّاد ينتظر مواعيد انطلاقه خلف اللقمة.

بالإضافة إلى عيني البوم الكبيرتين وخديّه وبقية ملامح وجهِهِ التي تمنحه مظهراً إنسانياً حزيناً وغامضاً، وإلى طيرانه كالأرواح، فالبوم يقطنُ أحشاء الأحجار الحنون. فالأبنية العتيقة والخرائب والمقابر تتصف بوجود فراغات في جدرانها، والبوم المسكين يقطنها من دون أي يعرف أنها تمثل بالنسبة إلينا رموزاً مخيفة وغامضة!

وهذه العوامل الثلاثة ساهمت في خلق أسطورة البوم الغامض والمشؤوم، أو البوم ذي القوة الخارقة المستمدة من أسرار ما وراء الطبيعة.

وليس الإنسان وحيداً في خشيته من البوم. العصافير الصغيرة تخشاه وحين يمر بها البوم تتناثر وتزعق وتبدو مسحورة ومضطربة. لماذا؟ هذا طبيعي بالنسبة إلى صغار العصافير ما دام البوم يتغذى بها وبالفئران والقوارض والأسماء والسلاطعين (البوم المائي) لكن الإنسان ما باله يخشى البوم؟!

نظرات البوم ترعب الإنسان. لكن ما ذنب البوم إذا كانت عضلات العينين لديه لا تسمحا للبؤبؤيْن بالدوران في محجريْهما (وهذا يساعده على تركيز الرؤية ليلاً) فعدم تحريك البؤبؤين يوحي أنه عراف يتأمل كرته الزجاجية مبصراً للغيب والأحزان القادمة لا محال.

طيران البوم يرعب الإنسان. لكن ما ذنب البوم إذا كان قد طوّر خلال العصور قدرته على الطيران الصامت، بحيث يكون أكثر قدرة على إنشاب مخالبه في فريسته. إنه لا يقصد تخويف الإنسان لكن ما ذنبه إذا كان ضمير الإنسان مثقلاً ترعبه عينان تحدّقان فيه بصمت اتهامي؟ ما ذنب البوم إذا كان الإنسان يرى في عينيه مرآةً لمخاوفه وخطاياه.

نعيق البوم يخيف الإنسان. لكن ما ذنب البوم إذا كانت حباله الصوتية مشابهة للحبال الصوتية للإنسان، وبالتالي فإن الصرخات التي يطلقها تشبه ندْب قبيلة مفجوعة مروّعة؟! ثم أن البوم حين ينعق لا يقصد تخويف الإنسان بقدر ما يقصد الحوار العاطفي مع الحبيبة والقبيلة ومناجاة الأصحاب. وإذا كانت قوة البصر الليلي تفوق طاقة الإنسان من 50 إلى 100 مرة فإن طاقته على السمع تفوق سمع الإنسان بأكثر.

البوم قادر على سماع أصوات تعجز آذان الإنسان عن التقاطها، كصوت اهتزاز ورقة عشب تحت ذنب فأر أو غيره. إنه مخلوق بريء طوّرته الطبيعة بحيث يقدر على اكتساب عيشه من الصيد الليلي.

البوم حيوان عظيم الصبر، قادر على العيش في مناخ قطبي وفي مناخ صحراوي على السواء، بل هو قادر على الاستمرار في أمكنة تعجز أنواع الأشجار كلها على النمو فيها. البوم يعشق الرحيل كالشعراء الجوالين ولا وقت لديه لبناء مسكن، ونمط حياته شبيه بنمط حياة الإنسان، فحين تضع البومة بيوضها تقوم هي بإحتضانها بينما ينطلق البوم الذكر بحثاً عن قوت الأسرة.

ويتّبع بعض البوم نظام تحديد النسل كالإنسان. والبوم صديق للإنسان ضد هجامات الفئران والقوارض لذا نجد المزارعين في بعض البلدان يعاملون البوم كما لو كان شرطي حراسة في المزرعة ويبنون له بيتاً خاصاً به كي يغروه بالإقامة فيه والحراسة المجانية مقابل طعامه من فئران المزرعة وديدانها وبقية المخلوقات التي تضر بالنباتات.

الدين اليهودي يحرم أكل لحم البوم لكنه لا يحرم صيده. وفي بلدة تروا – فريرز في فرنسا نجد نقشاً في أحد الصخور لبوم قطبي جميل يعود تاريخه إلى العصر الحجري والعلاقة بين الإنسان والبوم كانت دوماً غير دبلوماسية منذ أقدم العصور.

كثيرون يكرهون البوم والبعض يحبه لكن القلائل يستطيعون المرور به بلا مبالاة وقد فسر ذلك أحد العلماء بقوله: البوم بشبه الإنسان كثيراً ومخالبه المخبأة تحت ريشه تذكر الإنسان بشرّه المخبأ تحت قناع تهذيبه الإجتماعي. البوم هو كاريكاتور الإنسان ولذا نكرهه ونحبه في آن واحد لإنه انعاكس لصورتنا في مرآة الحياة الحيوانية في الطبيعة.

هكذا تكن البومة في الليل
هكذا تكن البومة في الليل

ولم تكن أثينا وحدها التي اتخذت من البوم رمزاً للحكمة منذ 2500 سنة.

في أساطير الملك آرثر والمائدة المستديرة في انكلترا نجد أن الحكيم مارلين كان يحمل على كتفه بإستمرار بوماً يرمز إلى الحكمة والمعرفة.

في العصور الوسطى طالما كان البوم رفيق الحكماء، ويتجسد ذلك بوضوح من خلال أسطورة (البوم والعندليب في القرن الثالث عشر)

وفي عام 310 قبل الميلاد حاصر أجا ثولكلز القرطاجيين بجنود يحملون البوم على أكتافهم ودروعهم وخوَذِهم مما لعب دوراً هاماً في الحرب النفسية الأولى للعصور القديمة.

في أستراليا ما زالوا يعتقدون بأن أرواح النساء تحل في البوم بعد الموت ولذا يحرّمون صيدها (كي لا يصطاد شخص ما روح أمّه أو حبيبته دون أن يدري).

أما الهنود الحمر، وبصورة خاصة كيروا، كانوا يعتقدن أن روح ساحر القرية وطبيبها تحل في البوم بعد موته لذا فالبوم لديهم مقدّس كما البقرة في الهند.

وفي صقلية يخاف الناس من البوم فإذا كان نعيق البوم نائياً وغامضاً فهذا معناه موت الجار، وإذا كان النعيق واضحاً ومحدّداً فإن سامعه هو الذي سيموت (حتى ولو أغلق أذنيْه) وإذا نعق البوم قرب رجل مريض فهذا معناه بأنه سيقضى نحبه بعد 3 أيام.

أما في الحبشة، فحين يُحكم على رجل بالإعدام يقتاده الجنود إلى منضدة محفور عيلها صورة بوم وحين يرى السجين الصورة يدرك الحكم، ومن المفروض أن يموت ميتة شريفة بانتحاره بواسطة سلاح يتركونه له مع صورة البوم.

أما في (ويلس) فالغريب أن نعيق البوم كان نذيراً للفتاة بفقدان عذريتها. وفي بعض مقاطعات فرنسا يعتبر نعيق البوم بالقرب من امرأة حامل نذيراً بولادة (بنت لا صبي) أي كما هو الحال عندنا.

في مقاطعة يوركشاير في بريطانيا يتوهم الكثيرون أن شرب حساء البوم يشفي من السعال.

البعض يعتقد أن حساء بيوض البوم يشفي من داء الصرع ومن إدمان الكحول. فإذا أطعمت طفلاً بيضة بومة فإن في ذلك ضمانة له في بنك المستقبل ليصبح سفيراً عندما يكبر.

من كتاب ع غ تتفرس – غادة السمان

Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار