«أيَّ القصائد هذا اليوم أدَّخرُ، أمتَّ حقَّاً؟، إذن فالقلبُ ينحسرُ… وأيَّ شعرٍ أقولُ، الشعرُ يسبقني، إليكَ والكلماتُ السُّودُ تنتحرُ، أأنت تسقط؟ يا للهُ، كيف بها، غزالةُ الشّوفِ لمَّا هزَّها الخبرُ، كأنَّما جبلُ الباروك أذهله، أن تنحني فمشى في يومك الشجرُ… والأرزُ أفلت من حرَّاسه، ومشى، وفي ثناياه من جرحٍ الرَّدى خدرُ… كأنَّما أمَّةٌ في شخصكَ اجتمعتْ، وأنتَ وحدكَ في صحرائها المطرُ، أظنُّها طلقاتُ الغدرِ حين هوتْ، تكاد لو أبصرتْ عينيك تعتذرُ… قُتِلتَ؟ لا لم تمتْ لكنهم كذباً، توهَّموا وأماتَ الغدرُ من غدروا… هذا عليٌّ يصلِّي فوق مسجده، فيا ابن ملجمَ، اضربْ، إنَّه قدرُ… وراودتْ جفنك المغدورَ أخيلةٌ، لن يدركوها، ولو أعياهمُ النَّظرُ، كالطَّيفِ تخطرني ذكراك، هل لغةٌ، بها ضفاف مداك الرحبِ تنحصرُ؟ هناك حيثُ اليقين الصِّرف يبلغه، الموحِّدونَ، فلا شكٌّ ولا حذرُ، وحيثُ تتَّحدُ الأديانُ في المثلِ العليا، وفي نقطةِ التَّكوين تنصهرُ… طالَ ارتحالكَ ما عوَّدتنا سفراً، أبا المساكين، فارجعْ، نحنُ ننتظرُ…

مهما كتب في كمال جنبلاط، لا أعتقد أن هناك ما يبز الشاعر الكبير شوقي بزيع في رائعته التي يتوجه بها إلى المعلم الشهيد كمال جنبلاط في استشهاده. فهذه القصيدة الإستثنائية يستحقها رجل إستثنائي بحجم كمال جنبلاط، في اعقاب اليوم الحزين الذي قضى فيه زعيم المختارة في السادس عشر من آذار من العام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعين على الطريق الموصلة بين بعقلين ودير دوريت. وهو الذي طالما ردد «كُتب علينا ألا نحصد نتائج أفكارنا وثمار جهودنا، إننا نغرس لغيرنا ونعمل لسوانا».

المعلم كمال جنبلاط
المعلم كمال جنبلاط

الأسرة الجنبلاطية تتحدر من أصل كردي، وجنبلاط هي الترجمة العربية لعبارتي «جان» و«بولاد»، أي «روح الفولاذ»، ونزح أوائل المؤسسين للعائلة الجنبلاطية على موجتين، بين عامي ألف وستمائة وسبعة للميلاد، وألف وستمائة وإحدى عشر منه. ثم في الألف وستمائة وثلاثين، وستمائة وأحد وثلاثين، وتمكنت من أخذ الزعامة الدرزية والإحتفاظ بها لأكثر من ثلاثة قرون. خلالها، قضى العديد من آل جنبلاط قتلاً واغتيالاً، منهم فؤاد جنبلاط، والد كمال جنبلاط، بعد أقل من عام على إعلان «دولة لبنان الكبير»، في وادي عنبال، في السادس من آب من العام واحد وعشرين وتسعمائة وألف.

في السادس عشر من آذار من كل عام، يتذكر الحزب التقدمي الإشتراكي، وجميع محبي كمال جنبلاط ذكرى استشهاده، فتضاء الشموع، ويزور المحبون ضريحه ليضعوا زهرة عليه، وتكون مناسبة للقاء وريثه رئيس جبهة النضال الوطني النائب وليد جنبلاط، حيث جرت العادة أن يتوجه إلى الجمهور بكلمة، وتحفل المختارة بالضيوف من جميع المناطق والتيارات الفكرية والتقدمية، وفي زمن الإصطفاف الجنبلاطي إلى جانب قوى الرابع عشر من آذار، كانت باقة رموز تلك القوى تلتقي في قصر المختارة، لتعلن موقفاً ينخفض أو يعلو منسوبه السياسي بحسب توجيهات الزعامة الموحدة للرابع عشر من آذار.

في هذه المناسبة الأليمة، نسأل في «بالعربي» سؤالين فقط، برسم العقل اللبناني عامة، والتقدمي الإشتراكي خاصة، نسأل، من قتل كمال جنبلاط، وماذا قتل كمال جنبلاط، أو لماذا قتل كمال جنبلاط. وكما أن للسؤال أبعاد سياسية كبيرة، كذلك تختلف الإجابات باختلاف القراءة السياسية للحدث. للتاريخ فقط، لا بد من التذكير بطلب الرئيس المصري آنذاك، في آخر زيارة له (لكمال جنبلاط) أن يبقى في القاهرة، ولا يعود إلى لبنان، لأن هناك قرار بتصفيته، فأجابه جنبلاط أنه يريد أن يعود ويموت في لبنان. كما دلت المؤشرات الدولية إلى «رفع الغطاء» عن هذه الشخصية، ونهاية دورها المرسوم، أما من أطلق النار، فليس هو الهم، علماً ان الشهيد لم يكن يحتفظ بعدد كبير من المرافقين، بل على العكس، كان لا يسمح لكثر بمرافقته في السيارة.علماً أننا إذ نقول ذلك، فنحن لا نبرر بأي شكل من الأشكال لمن أطلق النار فعلته، فمن قتل كمال جنبلاط، ومن قتل رفيق الحريري وجميع الشهداء، وكل من يقتل نفساً حرم الله قتلها، هو مجرم وقاتل..

كمال جنبلاط... في ذكرى استشهاده
كمال جنبلاط… في ذكرى استشهاده

أما لماذا قتل كمال جنبلاط، كما قتل غيره من رموز لبنانيين، حينما حاولوا فعلاً الخروج برؤية لمستقبل أوضح لهذا البلد، كما قتل بشير الجميل تحوله من زعيم ميليشيا، ومحاولته أن يكون رئيساً لكل لبنان، وإطلاقه لشعار 10452 كلم مربع، قتل كمال جنبلاط مشروعه الإصلاحي الإداري، وشعار مواطن حر وشعب سعيد. ومحاولته الخروج من الزنزانة الطائفية الضيقة، إلى الحضن الواسع، قتل كمال جنبلاط مشروعه لإلغاء الطائفية السياسية، الذي عمل عليه في تجربته السياسية، قتله محاولة المواءمة بين الإصلاح الإقتصادي والإصلاح السياسي… أوليس هناك من قال له، بحسب مؤرخين نقلوا عنه : «لا يمكنك السير في الإصلاح الإداري إلاّ في حال تخليك عن القضية الفلسطينية»، رفض كمال العروبي القومي الناصري الإشتراكي هذا طبعاً، وكتب عنه في وصيته قائلاً: «إذا وافقت على التخلي عن القضية الفلسطينية فسيلعنني التاريخ ألف مرة». قتلته محاولة التمسك بالوجه العربي للبنان، وفي نفس الوقت، عدم الدخول في وحدة عربية، خشية الذوبان في البحر الكبير، بل الحفاظ على التعددية، وعلى مصطلح التنوع في الوحدة.

لا تستطيع إلا أن تحترم فكر كمال جنبلاط، ومبدأه السياسي، وتحوله إلى أيقونة للعمل السياسي في لبنان والشرق، كثر يتكلمون عن كمال جنبلاط، ولا يعرفونه، كثر قرأوا له ولم يقرأوه، كثر ناصروا حزب، ولم يناصروا فكره، وقلة قليلة من قرأت كمال جنبلاط، وفهمته، وحاولت ترجمة فكره أداء وإنجازات. كمال جنبلاط حوصر من الداخل والخارج، من أجل المبدأ، والقضية، فلم يلن، ولم يذعن، ولم يستكن، ولم يساوم ولم يهادن، أفلا يستحق هذا التراث العريض الإحترام والتقدير؟ أوليس هو القائل «يجب أن نعرف كيف ننتصر فهو أمرٌ أهم من الفوز بحد ذاته». أوليس هو من حاول ردم الهوة بين الفكر السياسي والممارسة السياسية، بعد أن بلغ الوقت حيزاً أصبح فيه الحديث عن فكر سياسي ترف، والأساس الدخول في الديماغوجية والألاعيب وصراع السلطة.

الوفاء الكبير لذكرى كمال جنبلاط يكون في التأسيس لدولة علمانية ديموقراطية، لتفعيل دور المرأة، لنشر التربية والثقافة، لتأسيس المعامل والمصانع، لمحاربة الفساد والإثراء غير المشروع، لتفعيل قانون «من أين لك هذا»، للمساءلة والمحاسبة، لتداول السلطة، وإزالة اللواصق عن الكراسي، لربيع لبناني، يجدد الطبقة السياسية التي اهترأت وعفنت، وضاق أفرادها برائحة فسادها. لتمكين جيل شاب من الوصول، من أجل الحلم، من أجل لبنان.

كمال جنبلاط، قضى «في سبيل لبنان»، وتكلم «فيما يتعدى الحرف»، وحكم أن لبنان الطائفي «محكوم عليه بالإعدام»، فهل أثبتت الأيام صحة فرضيته؟ وهل فعلاً سنصل إلى يوم يتحرر لبنان من سجانيه؟

غسان بودياب – بيروت

Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار