زرت أغلب الدول العربية وتجولت في شوارعها وجلست مع النخبة كما مع بقية الشعب العادي، وبإمكاني تصوير خلاصة عامة لما لاحظته في هذه الدول، بحيث استنتجت أن لبنان أكثر بلد عربي متحضر وراق ومتمدّن ومثقف، لدرجة أَنِّي أستغرب من تصنيفه عربياً ومسلماً لإختلاف شخصيته كلياً عن باقي الدول، حتى طريقة العيش هذا الشعب مختلفة كلياً عن باقي الوطن العربي سواءً في طريقة اللباس أو الكلام أو الثقافة العامة السائدة، فتحسّ أنّ اللبنانيين قريبين جداً من الأوروبين ويستحيل أن يكونوا عرباً. وإن قرأت تاريخهم تعرف فعلاً أنهم مزيجٌ من الفنيقيين والرومان وباقي الحضارات غير العربية. وإذا رأيتهم في أوروبا أو أمريكا لا يمكنك أن تميزهم عن أهل البلاد، خاصة بقدرتهم الرهيبة على الذوبان والاندماج في الثقافات الغربية بسرعة فائقة.

إضافة إلى كل هذا خبرتهم العملية العالية والوافرة في كل المجالات تقريباً، خاصة التجارة والإعلام والتسويق، ذلك أن كل دول الخليج قامت على الكفاءات اللبنانية في التسيير والعلاقات في أكبر الشركات، ومعروف عن اللبناني أنّه يخلق الحياة حتى لو هاجر إلى بلد يسوده الموت، والكثير من اللبنانيين هاجروا إلى دول إفريقيا الوسطى الفقيرة ومع ذلك خلقوا مجالات تجارية فيها، وكونوا ثروات طائلة رغم فقر تلك الدول. ونفس الأمر بالنسبة لأميركا اللاتينية، فما بالك عندما يهاجرون إلى أوروبا وأميركا؟

صدقاً ومن دون مبالغة فإن الشعب اللبناني جبار وخطير جداً ويثبث وجوده ويصنع الحدث أينما حل.

الشعب اللبناني ينقسم إلى شيعة ومسيحيين وسنّة ودروز، لكن أقلية كثيرة في كل هذه الطوائف من تمارس السياسة والدّين، والأغلبية تعيش حياة منفصلة عن كل هذه التصنيفات وتركض وراء لقمة عيشها وكأنها تعبت وملّت من الحروب الأهلية، لأنّ الوضع السياسي في بلادهم صعب وخطير ومرتهن لتجاذبات خارجية معقدة جداً، وهذه التجاذبات تحتاج لمعجزة لتفكيكها بسبب تبعية كل طائفة لبلاد وجهة خارجية معينة، مما أدخل لبنان في صراع دولي دفع بأغلب كفاءاته لمغادرة البلاد. حيث يوجد حوالي عشرين مليون لبناني في الخارج بينما يوجد أربعة مليون فقط في الداخل.

ورغم اختلاف الأديان والثقافات داخل البلاد إلا أنّ أغلبية الشعب اللبناني يعيش على نفس النمط الحضاري والحداثي المنفتح على الآخر، لكن سرعان ما تتخندق كل فئة تحت راية زعيمها السياسي إذا ما أُثيرت النعرات الطائفية، لأنها مجبرة على القبول بذلك، بهدف الحماية حتى لو لم تكن موافقة على قرارات هذا الزعيم. فينضوي الدروز تحت قيادة الزعيمين الأمير طلال أرسلان ووليد بك جنبلاط والشيعة تحت قيادة السيد حسن نصر الله ونبيه بري، والمسيحيون منقسمين بين ميشال عون لمن يوالي المقاومة الاسلامية، وبين سمير جعجع لمن يوالي الطرف الآخر وهكذا دواليك.

هؤلاء القادة الطائفيين يحاولون إيهام الشعب على أنهم على اختلاف لكن حالما تظهر نخبة مثقفة في البلاد تحاول تحريض الشعب ضد الجميع والتخلص من كل الخنادق المذهبية والتوحد على لبنان واحد وسيادي، عندها يتفق قادة الطوائف والمذاهب فوراً ضد هذه الشعب خوفاً من خسارة هذه اللعبة القذرة التي كلفت لبنان ثمناً باهضاً، لأنّ وعي الشعب وتخلّصه من الصراع الطائفي يعني انتهاء هذه الأحزاب مع قياداتها المذهبية.

ولأنّ الخطورة في السياسة اللبنانية أنّ الأحزاب المتعارضة لا تختلف فقط في وجهة النظر وإنما حتى في كيفية الولاء للوطن، عكس الأحزاب المتناطحة في الدول المتقدمة والتي تقف كلها عند خط الوطن والأمن القومي مهما اختلفت في الرؤى، والأمر المحزن أنّ لبنان لا يستغل التنوع في شعبه لإثرائه كنقطة قوة بل جعل منه ذلك متشرذما لكن متقدماً.

فمثلا الشيعة هم الحلقة الأقوى سياسياً وخاصة أمنياً وهذا راجع لاختلاف سكان الجنوب وتميزهم بالصلابة والشدّة والإيمان بالقضايا والنضال، لكن مشكلتهم التخندق لإيران وسوريا أكثر من لبنان في حين كان يمكن استغلال قوتهم هذه في تدعيم الجيش اللبناني عوض تكوين كتائب وفرق خاصة بهم تجعل منهم أقوى أمنيا في العتاد من الجيش نفسه، لذلك هم الحاكم الفعلي للبلاد، وهذا خلق حساسية عند باقي الأطراف ومن الخطأ أن يستمروا هكذا حتى لو كان هدفهم المقاومة كما يقولون.

أما المسيحيون فهم واجهة فكرية وثقافية جيدة وكان يمكن استغلالها في الدبلوماسية أكثر. أما بالنسبة للسنة فهم الحلقة الأضعف في كل النواحي وغالباً يهتمون بالتجارة أكثر من السياسة والفكر والأمن، وهم بدورهم يعلنون ولاءهم للسعودية وتارةً لتركيا محاولة منهم لتحقيق مكاسب ضد الأطراف اللبنانية الأخرى.

كل هذا ليس أكثر من إطلالة عامة وليس بالضرورة تحليل دقيق لأن كل طائفة فيها من كل نوع ولون وفكر، ولبنان عامة خليط من كل الافكار والمستويات بغض النظر عن الطوائف والتقسيمات.

هكذا تستمر التجاذبات لصالح كل دول الخارج وضد المصلحة العامة للبنان، ولا زالوا يعيشون في دوامة النزاع واتفاق الطائف الذي رسمه لهم المجتمع الدولي في السعودية لإنهاء الحرب الأهلية التي تحولت إلى حرب باردة تستنزف كل ما هو جميل في هذا البلد.

ومع كل هذه المشاكل ومع فقر البلاد وقلة الموارد الطبيعية وعجز ميزانية الدولة، إلا أنّ اللبنانيين دائما يبدعون وهم خلاقون للأفكار الجديدة والبناءة التي يعيشون عليها، وبتلك المداخيل يتحدّون الصعاب ويدفعون الضرائب العالية وأقساط مدارس أولادهم المكلفة وتكاليف العيش الغالية في بلادهم التي تعتمد على السياحة كمصدر أساسي للدخل الفردي والعام. ولهذا عندما ترى هذه التناقضات وإصرار الشعب اللبناني على تحدي الصعاب وتمسكه بالحياة وتحسينه دائما لظروف عيشه، تستنتج أنّ هذا الشعب لو وجد زعيما سياسيا وفكرياً حقيقياً مثل كمال اتاتورك لبناء بلاده وجمع هذه الشعب الخارق تحت راية واحدة، لأصبح لبنان من أعظم دول العالم ولأصبح ملهما لقيم الدمقراطية والحداثة والثورة الفكرية والتنوير والفنون للوطن العربي، لأنّه الشعب الوحيد في الدول العربية الذي تكمن مشكلته في النظام والحكم وليس في الشعب، فرغم وجود نخبة وطبقة نوعية في كل بلدان المشرق والمغرب إلا أنّ الشعب اللبناني يبقى الأكثر نوعية وتحضُّرا ورقياً.

هاجر حمادي – الجزائر

Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار