لا أعلم لمَ أعادت إليّ إليسا ما أبلغني به جدي وجدتي منذ سنوات، عن إصرار عمالقة لبنان الكبار من الصبوحة ووديع الصافي وفيروز، على إحياء الحفلات وإطلاق الأغنيات وتقديم العروض المسرحيّة، أثناء الحرب الأهلية الطائفية الدامية، التي استمرت تستنزف اللبنانيين 15 عامًا دون أن يخرج منها أحد الأطراف منتصرًا.

ما نمر به الآن شبيهًا، نحن نعيش حربًا اقتصادية خانقة (تقتلنا ببطءٍ لا بالسلاح المباشر)، مع الفارق أن اللبنانيين أيام حربهم الأهلية، كانوا بغالبيتهم الساحقة من أبناء الطبقات الوسطى، أما اليوم فثمانون بالمائة منهم يتذلّلون تحت خط الفقر الأحمر.

الحديثُ بالسياسة يطولُ، لكن ما تفعله إليسا بعد طرحها لألبومٍ متكامل (نتحدّثُ عنه بالتفصيل أدناه)، فعله من قبلها الكبار الذين لا يُقارنون بأحد.

أهذا ما يجعل النجمة اللبنانية تغرّد خارج سرب أي منافسة أو مقارنة تحدث اليوم؟ ألا يثبت لكم كلامنا الذي رددناه مرارًا وتكرارًا عن احتلالها المرتبة الأولى عربيًا منذ عقد بين كلّ منافساتها الناجحات القليلات؟

هل هذا يجعلها (حالة برا التصنيف) كما تصفُ نفسها بأغنيتها (صاحبة رأي)؟

الفن أجمل بندقية بيضاء للمواجهة، فكيف إن كانت إليسا من تقدّمه، لا فنانات وأشباه نجوم آخر زمن، الذين لا يطرحون سوى مشاريع ساقطة، من كل المعادلات، والتي تشبههم، وتماثل أيضًا ما قدّمه ساسة لبنان من مشاريعٍ لهذا الوطن المنكوب منذ ثلاثين سنة وأكثر.

(صاحبة رأي) عنوان ملائم لشخصيّة إليسا الجريئة والصادقة، والتي لا تأبه الخسارات، صاحبة المواقف الواضحة مثل الشمس الساطعة، ولا يهمها أن تلقّب نفسها أو يلقبها معجبوها بشمس الغناء أو ما شابه، لأن كل من تجيّر لنفسها هذه الألقاب، بعيدة عن كل البعد عنها!

الألبوم أعاد النجمة اللبنانية إلى أغانيها التقليدية الرومانسية، التي بدأت تكسبها شهرتَها العربية منذ بدأتها، إلى ألبومات مثل (أحلى دنيا) و(بستناك) و(أيامي بيك).

(صاحبة رأي) يشي بنضجٍ فنيٍ مكتمل الملامح، يجعله يتقدّم بخطوات على آخر ألبوميْن طرحتهما إليسا تحت عنوان (إلى كل الي بيحبوني) و(سهرنا يا ليل).

النقطة المضيئة تنطلق من الكلام الرائع الذي كتبه أهم الشعراء المصريين واللبنانيين، ولعلّه المصري أمير_طعيمة هذه المرة يتصدّر اللائحة بين زملائه، بعدما تعاون معها بأجمل أغنيتين سمعناهما بالألبوم: (أنا شبه نسيتك) و(حبة اهتمام)، وكلاهما ينالان حتّى اللحظة أعلى نسبة مشاهدات.

المواضيع المطروحة في الألبوم غير مستهلكة، وتحمل تناقضات لافتة بين المشاعر: بين الكره الشديد والحبّ الأقصى، بين التوّسل أمام الحبيب والتمرد على طغيانه، الاهتمام الناقص والعشق الزائد، التحرش اللفظي أو الجنسي والخيانة المبررة، المكابرة والركوع أمام الشوق ولهفة الانتظار.

هنا نظرة تفصيلية عن الأغنيات الثمانية عشر:

  • (صاحبة رأي) التي استوحاها الشاعر أسامة مصطفى، من مقابلة إليسا مع مارسيل غانم، ضمن برنامج (صار الوقت) العام الماضي، لحّنها سامر أبو طالب، ووزعها اللبناني هادي شرارة. تغنيها النجمة اللبنانية بإحساسٍ عميق لأنها تماثل حقيقتها، وتسرد كيف تحدت الجميع خلال مسيرتها وأثبتت نجاحها ولم تتغيّر وبقيت كما عرفها الجميع!
  • (عظيمة) من كلمات نادر عبدالله، ألحان محمد رحيم، توزيع أحمد إبراهيم. الكلمات رائعة تسرد معاناة الحبيبة أمام حبيبها المتجبّر وكيف خذلها تحديدًا عندما تقول: (ما ببقى وراك وما تشوفنيش عظيمة)، وهنا اقتبس نادر عبارته من المقولة الشهيرة: (وراء كل رجل عظيم امرأة) بطريقةٍ مبتكرة.
  • (أغانينا) من كلمات وألحان المصريين محمد قاياتي وألحان محمد يحيى، توزيع المصري عادل حقي. وعبرها تذكرت الراحلة الكبيرة داليدا، تحديدًا عندما تلفظ إليسا عبارة: (أغانينا وورانا)، لكنتها تشبه كثيرًا لكنة النجمة العالمية ومخارج الحروف أيضًا شبه متطابقة بينهما. ليس سرًا يُخفى على أحد، مدى تعلّق إليسا بالمغنية الفرنسية من أصول مصرية (داليدا)، وكيف تسعى دائمًا لتكريمها والغناء لها لذا نعدها أكثر من تذكّرنا بها بين النجمات العربيات، دون أن ننسى إعادتها إحياء أغنيتها الشهيرة الحزينة: (Mourir sur scène)، فأجادت غناءها باللغة الفرنسية لكن الأصل بطبيعة الحال دائمًا من يفوز. لا نقلّْل من شأن أداء إليسا، لأنها نفسها لا تقبل أن نضعها برتبة داليدا في أداد أغنيات داليدا، علمًا أن ما فعلته بناءً على محبتها الكبيرة لها.
  • (أنا شبه نسيتك) و(حبة اهتمام) من كلمات أمير طعيمة، وأكثر الأعمال نجاحًا وتداولًا بين المستمعين. الأولى تشرح عبرها قصة مكابرة امرأة، على حبيبها، وإيهامه ولكل المحيطين بها، بنسيانه قبل أن تفاجئنا بآخر (كوبليه) عندما تعلن كذبَها وتقرّ بمدى اشتياقها له. أما العمل الثاني فتناقش عبره إهمال الحبيب لها والجرح الذي يصرّ على إحداثه لروحها.
  • (وفي) من كلمات اللبناني علي المولى، ألحان جمال ياسين، توزيع شقيقها كميل خوري. هنا ندخل بوابة الأغنيات اللبنانية التي لم تستطع هذه المرة التفوق على جمال الأغنيات المصرية. هذه الأغنية التي كتبها واحد من أشطر شعراء لبنان برّر فيها مفهوم الخيانة بشكل أحدث جدلاً كبيرًا لأن ما قاله لا ينطبق على الجميع.
  • (مباحة ليك) من كلمات المصري بهاء الدين محمد، ألحان زعيم، توزيع نور.. الموضوع هذه المرة مختلف تمامًا، يحمل من الجرأة ما يكفي، ما يجعل الأغنية من أروع ما غنته إليسا بالسنوات الفائتة. تهاجم عبره المتحرشين لفظيًا وجسديًا، والذين يزعجون النساء بسلوكياتهم الوقحة ويمارسون أبشع الاعتداءات بحقهنّ.
  • (على حس حكايتنا) و(ليك لوحدك) و(انتَ قصادي) من الأعمال الرومانسية التي اعتدنا على الفنانة اللبنانية طرحها بالألبومات السابقة، وتتحدث بها عن جمال مشاعر الحبّ والاشتياق العارم للمحبوب.
  • (هعتبرك مت) من كلمات بهاء الدين محمد، ألحان مدين، توزيع أحمد عبد السلام. هنا كلّ الكراهية والأحقاد بعملٍ واحد، الحبيبة تتمنّى الموت لأثيرها الجارح، تعده بارتداء الفستان الأبيض والرقص على جثته حيًا، تصلّي لتنتهي حياته بأي طريقة. جرأة، تجدد، وموضوع سوداوي نافر لكن غير مطروح ستحبه كل النساء المغدورات.
  • (سمعني) و(غلطة وقت) من الأعمال اللبنانية الجيّدة التي نضعها بالمرتبة الثانية خلف أهم وأتقن الأغنيات المصرية ومعها اللبنانية (وفي) لعلي المولى.
  • (إلي الله) من كلمات عمر ساري، ألحان محمد بشار، توزيع كميل خوري. وعبرها عادت إليسا لتتعاون مع الثنائي عمر ومحمد بعد نجاحها معهما بأغنية (وانتَ معي). هذه المرة نرى المرأة التي تؤمن دون حدود بإرادة الله وحكمته وكيف أنه سينتقم من حبيبها الذي غدرها.
  • (ومنحب الحياة) من كلمات نصر محروس، ألحان محمد رحيم، توزيع أمير محروس. وبها كل معاني الحب والسعادة والانتصار للحياة أمام الموت والكآبة، شهبية بمضمون الأغنية الجميلة التي أطلقتها إليسا منذ فترة تحت عنوان (هنغني كمان وكمان).
  • (قهوة الماضي) طرحتها النجمة اللبنانية منذ شهور، كتبتها سهام الشعشاع، لحّنها محمد رحيم، ووزعّها كميل خوري وحققت نجاحًا جيّدًا وأدتها بإحساس عالٍ.

الألبوم يتضمن محتوًى دسمًا لذا أشبّهه بالنبيذ الذي كلّما عتق كلما أصبح ألذ.

كلّ مكّوناته تصبح أجمل كلّ مرة، لذا تتفوّق إليسا اليوم على إليسا الماضية المتفوّقة أصلًا على معظم منافساتها!

اختياراتها ليست السرّ الوحيد هذه المرة، بل جدليّة مواضيع أعمالها وذكاؤها بكيفية تقديمها بعيدًا عن الاستهلاك والتكرار والاستنساخ.

عبدالله بعلبكي – بيروت

Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار