كلمة «الفصل» بين الدولة العلمانية والدولة المدنية هنا، ليست شديدة الأهمية فقط، لكنها بيت القصيد، ثمّة مبدآن علمانيان جوهريان ينبثقان من هذا الفصل:
المبدأ الأوّل: تفصلُ الدولة العلمانية بين مجالين مختلفين في حياة الناس: العام والخاص. المجال العام (الذي يضمّ المدرسةَ، والفضاءَ المدني عموماً) مكرّسٌ لما يخدم جميع الناس، بغضّ النظر عن أصولهم وألوانهم ومعتقداتهم الدينية أو ميولهم الإلحادية. لا مرجعية فيه لأي دينٍ أو فلسفةٍ إلحادية. أما المجال الخاص فيستوعب كلَّ المعتقدات والرؤى الشخصية، دينية كانت أم لا دينية أو إلحادية.
المبدأ الثاني: تضمنُ الدولة العلمانية المساواة الكلية بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم، واللامتدينين والملحدين أيضاً. تدافع عن حريتهم المطلقة في إيمانهم أو عدم إيمانهم (حريّة الضمير) وتحترمها بحق.
أما مفهوم «الدولة المدنية» انبثق عقب إندلاع الثورات العربية، واكتسب أهميّةً متصاعدة بعد أوّل انتصاراتها. يُعرِّفُ الكثيرون هذه الدولة بأنها دولة «تحقق جملة من المطالب المتعلقة بالمواطنة المتساوية وبالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها من المطالب المتصلة بحاجة الشعوب العربية إلى التطور والتنمية، وتستمدُّ قانونها من الشريعة الإسلامية هذا في الدول الإسلامية».
إذا كانت كل دولنا العربية اليوم أشكالاً مختلفة للدولة الدينية التقليدية، فالدولة المدنيّة المنشودة لا تختلف كثيراً أيضاً عن هذه الدولة الدينية إلا بنزعتها المُعلَنة لإرساء الديمقراطية والمساواة ومواكبة العصر الحديث، فيما تختلف الدولة المدنية بشكلٍ ملحوظ عن الدولة العلمانية.
لإجلاء ذلك يلزمنا تحديدُ بعض الفوارق الجوهرية بين مفهومَي هاتين الدولتين. أو بالأحرى يلزمُنا توضيح ما أضافته الدولة العلمانية للحضارة الإنسانية، وما لا تمتلك الدولة المدنية شروط تحقيقه.
أحّد أبرز ما حققه مفهوم العلمانية على الصعيد الحضاري، إنهاء الصراعات والإضطهاد الطائفي والحروب الدينية في الدول التي ترسَّخَ فيها هذا المفهوم، بفضل مبدئه الثاني. يكفي على سبيل المثال تذكُّرُ الخلافات الصدامية بين البروتستانتية والكاثوليكية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، والحروب الدينية الطاحنة التي سبقت عصر العلمانية. صارت هذه الحروب والصراعات مستحيلةً اليوم في المجتمعات العلمانية بفضل المساواة المطلقة بين الجميع.
لعل عدم اعتناقِ مفهومِ الدولة المدنية للمبدأ العلماني الثاني، لا يبعث الأمل الجاد بامكانية التساوي الكليّ الحقيقي بين مختلف الفئات الدينية أو العرقية في دولنا المدنية المنشودة، أو بامكانية القطيعة مع ما يؤدّي إلى تمييز فئةٍ عن أخرى. ناهيك عن أن أدبيات الدولة المدنية لا تضمن الاعتراف بحقِّ عدم الإيمان أو الإلحاد.
أحد أبرز الانجازات الحضارية الأخرى للدولة العلمانية إلغاؤها المطلق لِشرعية أية «فتوى» دينية أو سياسية تمسّ حياة عالِمٍ أو مفكِّر، أو تمنع إصدار أي كتاب، كما ازدحم تراجيدياً بذلك تاريخُ «فتاوى» الكنيسة في أوروبا.. لا تبدو في مشاريع دولنا المدنية أية نوايا تتعلق بالفصل القانوني بين الدين والسياسة والعِلم، بغية القطيعة الجذرية مع تاريخنا العربي الحافل بفتاوىٍ دينيةٍ وسياسيةٍ مضرّجةٍ بالقمع والدم مسّت حياة مفكرينا وأدبائنا بشكلٍ قياسيٍّ مريع.
تظلُّ المدرسة العلمانية أعظم إنجازات الدول العلمانية بلا منازع. يتأسّس عليها التفوق الحضاري لهذه الدول على بقية العالم. هذه المدرسة (التي يَدرس فيها أبناء غير المتدينين أو ذوي الديانات والمذاهب المختلفة معاً، بشكلٍ حضاريٍّ متآلفٍ متناغم) مفصولةٌ تماماً عن تأثير أي دينٍ كان، أو فلسفةٍ مُلحِدة. تُعلِّمُ الطالبَ كيف يُفكِّر بروحٍ نقديّة، كيف يحكم لوحده دون أي يقينٍ مسبق بأية عقيدةٍ أو أيديولوجية، كيف يمارس حريّته في التحليل والتمحيص والرفض، وكيف يبني يوماً بعد يوم شخصيَّته المستقِلّة. تُكرِّس هذه المدرسة في الطالب العقليّةَ العلميّةَ الخالصة وتُنمِّي استخدامَها لِفهمِ الكونِ والحياة إنطلاقاً من مبادئ السببيةِ والتجربة والبرهان، وعبر دراسةِ نظريات العِلم الحديث، لاسيما نظريات النشوء والارتقاء، الانفجار الكوني الكبير (البيج بانج).. تسمح له هذه المدرسة أيضاً الانفتاحَ على استيعاب كلِّ التراث الفكري الإنساني بمختلف تياراته الفلسفية، دينية أو لادينية، هي باختصار: مدرسة ثقافة العقل والحرية والحداثة بامتياز.
لا يوجد في مشروع الدولة المدنية، الذي طرحه رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون وما لوحت به الثورات العربية حتى الآن، أية رغبةٍ جليةٍ في قطيعةٍ جذريّةٍ مع فلسفةِ وتكوينِ المدرسة العربية الحالية، التي انجبت بامتياز أجيالاً ممن تعلموا الخضوع للجلاد، وترعرعوا على ثقافة التفسيرات الظلامية للكون والحياة، وحافظوا على سمعة تخلفنا العلمي والإجتماعي والحضاري عموماً.
ثمّة أيضاً إنجازٌ حضاريٌّ علمانيٌّ هام: تحوّلَ الدين في الدول العلمانية إلى سلطةٍ روحية خالصة، لا يستطيع السياسيّ التحكّم بها. لا يمكنه مثلاً إعداد الخطب الدينية التي تُلقى في المعابد، مثل حال خطب مساجد دولنا الإسلامية التي لا تخجل أحياناً من التصريح بأن حاكمَ بلدِها «سادسُ الخلفاء الراشدين وأميرُ المؤمنين وسليلُ رسولِ رب العالمين!».
باختصار شديد: ينتمي مفهوم الدولة العلمانية إلى نخبةٍ من المفاهيم الإنسانية الحديثة الراقية التي تتغلغل جذورها في أعماق الفكر الإنساني العالمي، لا سيما العربي المتنوّر. لا يرتبط هذا المفهوم بالطبع بنظامٍ محدّد، رأسمالي أو اشتراكي، يمينيٍّ أو يساري..
رغم توسّع انتشار العلمانية دوليّاً، يجد مفهومُ العلمانية عراقيل وكوابح لا حدّ لها في مجتمعاتنا العربية، تنذر بصعوبةٍ هائلة ستواجه عَلمنَة دولهِ المدنية المنشودة.
لعلّ أبرز مناهضي هذا المفهوم هم الظلاميون الذين يمارسون تجاهه تضليلاتٍ ذكيّة. يرافقهم بالطبع الطغاة العرب الذين يتدخّلون بضراوة في شؤون الدين ويستخدمون الفقيه مطيةً للسيطرة على أدمغة أبناء شعوبهم، وممارسة دكتاتورياتهم.
ليس هؤلاء فحسب، بل هناك العديد من «الثوريين» العرب الذين يتسمّرون أمام مفهوم العلمانية أو يعتبرونه، بكل بساطة، مفهوماً استعمارياً كونه انطلق من الغرب، رغم تِكرارهم لمصطلحاتٍ نهضت أيضاً في الغرب ذاته، كالديموقراطية وحقوق الإنسان.
ثمّة أيضاً عددٌ من المثقفين العرب الذين يجدون صعوبةً في خوض الانتقال للفكر العلماني.
لعلّ أبرز هذه الأسباب خيبة هؤلاء المثقفين العرب من السلوك اللاإنساني الجشع، أو اللاعلماني المنافق، لقادة عددٍ من الدول العلمانية الغربية وبعض مفكريها، خارج دولهم أو داخلها أيضاً.
يكفي على الصعيد الخارجي تذكُّرُ تحالف قادة هذه الدول، في عمق الحرب الباردة، مع السلفيين المسلمين وتدريبهم عسكرياً ضد «الشيوعية الكافرة» في أفغانستان، وما أدت إليه عواقبه من كوارث زلزلت الغرب في عقر داره. أو يكفي اليوم مراقبة التحالف المقدس لأمريكا العلمانية مع سياسات التوطين الإسرائيلية المنطلقة من أسس لاعلمانية رجعية عنصرية: «أرض الميعاد»، «خير أمة اخرجت للناس»..
لا يجد هؤلاء المثقفون العرب، وعندهم كلُّ الحق في ذلك أيضاً، منطقاً لفهم الازدواجية في سموّ مبادئ العلمانية ذات البعد الإنساني الراقي من ناحية، وفي خساسة السياسات الاستعمارية والاقتصادية والمالية الجشعة للدول العلمانية وما تصنعهُ من أزمات دولية تدمِّرُ الدول النامية من ناحية أخرى.
ويكفي، على الصعيد الداخلي لبعض الدول العلمانية، ملاحظة كيف يلجأ بعض قادتها السياسيين، مثل بعض قادة اليمين الفرنسي، بتسريب تصريحات انتخابية ديماغوجية نتنة، تسيء للعلمانية أساساً، بهدف إرضاء بعض العنصريين من الناخبين الذين لا يحترمون، لسببٍ أو لآخر، الأديان التي دخلت النسيج الإجتماعي الفرنسي في العقود الأخيرة كالإسلام.
لا يخلو مواقف بعض قادة اليسار ومفكريه من أخطاء موازية تسيء للعلمانية هي الأخرى عندما تلجأ، في معمعان معارضتها الإيديولوجية لليمين، إلى سلوكٍ لاعلمانيٍّ يدافعُ، باسم الحريّة الشخصية، عن مظاهر دينية ظلامية صارخة، كالنقاب الوهابيّ الطالباني، تتسلّل لِفضاء المجال العلماني العام الذي يُفترض أن يخلو من أي مظاهر تُخِلّ بالمبدأ العلماني الأول.
ولعلّ سلوك بعض العلمانيين المتطرفين، الذين يمارسون العلمانية كدِين، يسيءُ هو الآخر لمفهومها. لا يستوعب هؤلاء مثلاً دور الاسطورة والأديان في حياة الكثيرين. يغامرون أحياناً باقحام العِلم والفكر الحر في جدَلٍ هدفه دحض فرضياتٍ دينية بحتة (مع أنها ليست فرضيات علميّة أساساً) أو السخريّة بحدّة من رموزٍ مقدّسة ذات أهميّة عاطفية قصوى في حياة المتدينين… أليس من الكياسة بمكان عدم تجريح هؤلاء أو ايذاء مشاعرهم بمسِّها الكاريكاتوري الواخز؟.
د. حبيب عبد الرب سروري