من يصدق أن هذه الأرض ملعونة برؤسائها وساستها، سيفهم دلالة ما أكتبه، وسيدرك أنني لا أصف إلا واقعًا بغيضًا نعيشه.
نحن اللبنانيون لم يعد يحزننا شيء ولا يفرحنا سوى المستحيل المتمثّل بسقوط طبقة الحكام الفاجرة التي تسرقنا منذ ثلاثين عامًا وتذلّنا بلقمة عيشنا وتجعلنا نتمنّى الارتقاء لمستوى حياة الحيوانات في الغرب.
لكنني ومنذ أمس أشعر بحسرةٍ كبيرة على رحيل النجمة المصرية القديرة رجاء الجداوي، وأنا لا أعرفها شخصيًا ولم ألتقِ بها يومًا، لسوء الحظ المتعثّر في هكذا وطن تحكمه شرائع من الفساد والإقطاعيّة والعبوديّة.
إقرأ: رحيل النجمة القديرة رجاء الجداوي!
أحببتُها ولم أرْها أو يجمعنا اتصال، لكنني مجروح وكأن قريبًا فارقني، أو صديقًا تخلّى عني، أو حبيبةً سلبها مني الموت، أو والدةً لم أنعمْ بما يكفي من الوقت لأعيد لها القليل من الكثير الذي منحته لنا.
كيف لفيروسٍ لعين اسمه كورونا أن يسرقها منّا؟ تلك التي واجهت الحياة 82 عامًا، عاشت حروبًا، تحدت أزمات، كافحت ببسالةٍ كلّ ظروفها، ابتسمت وأثرت طاقاتنا الإيجابية؟ كيف يقضي عليها مرضٌ دنيء كهذا؟
غضبي كبير، أشعر أنها سنة الخسارات الأقسى، ما الذي ينتظرنا بعد رحيل كبارنا؟ هل من كبير في زمنٍ آني نخوضه لأجل الاكتفاء بالعيش بجناحٍ مكسور؟ من بعد رجاء وصباح وأم كلثوم وفريد وعبد الحليم وحسن حسني وشادية ومريم فخر الدين وعمر الشريف وفاتن حمامة؟
نحن مفلسون وأرصدتنا الإنسانية والمالية والاجتماعية والسياسية مجيّرة للخارج الذي يعاملنا كمغتربين مذلولين على أراضينا، كان لدينا بضعة فنانين أنسونا همومنا، تفوّقوا، احتلوا اللوائح العالمية، فازوا بجوائز وتكريمات وتقديرات حقيقية لا تُشترى غير قابلة للمقاولة بزمن المقاولة والمتاجرة بكل مبادئ الكون، والآن نفقدهم واحدًا تلو الآخر.
من بعد رجاء يتمتع بربع أناقتها؟ من أكبر منها بساحةٍ يكتظ بها الأقزام؟ من يقبل أن يشارك بأي عمل حتى لو ضمّ مبتدئين؟ حتى لو ذُكرت أسماؤهم قبلها؟ من مثلها لا يرفض مد يد العون لأي شاب يريد الانطلاق؟ من بعظمتِها يشجب الانكسار ويصفع الأحزان، يبتسم حتّى بأقسى محاور اليأس!
الراحلة الكبيرة أنستنا إطار الشاشتيْن الصغيرة والكبيرة الذي عجز عن فصلها عنّا، لذا شعرناها معنا تسكن منازلنا أو ترافقنا في نزهةٍ إلى السينما، أما على المسرح فكدنا نقفز لنقبّلها، لا لنكتفي التصفيق لها، نسبةً لأدائها العفوي والجميل والبسيط الذي يخترق حتّى أكثر القلوب سوادًا.
رجاء لم ترحل مصريةً، ذهبت من شرقٍ عربي فقد معظم سكانه حاسةَ تقدير كباره..
مثلي كثر ربما، لكن الأكثر من لا يشبهني ويتحدّث بلغتي لكنه يلعن رموزي وكباري، لأنه ارتضى الذلّ والتبعية وإنكار الذات..
كم مرة سخر هؤلاء من سنّها، كم مرة حاولوا إتعاسها؟ هؤلاء المرضى الذين لا يرضيهم سوى تحطيم الناجح من أجل عقدة الفشل التي تلازمهم.
ما أجملك أيتها العظيمة، ارقدي بسلامٍ، فأعمالك باقية في ذاكرة البشر، أما أشباههم فلحظةً لم تكني على هذه الأرض من أجلهم!
عبدالله بعلبكي – بيروت