شهدت أسعار الذهب ارتفاعاً ملحوظاً خلال الأسابيع الأخيرة، حيث بلغ سعر الأوقية 2740 دولار اليوم الثلاثاء، وهو مستوى قياسي جديد. ومن وجهة نظري هذه الزيادة التي وصلت إلى 30% منذ بداية العام تُعد واحدة من أقوى الارتفاعات السنوية التي شهدها الذهب منذ 45 عاماً. الأمر اللافت هو أن هذا الارتفاع جاء رغم الظروف التي عادة ما تعاكس حركة الذهب، مثل ارتفاع الدولار الأمريكي بنسبة 3% وتراجع التوقعات المتعلقة بخفض أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي.
لكن الظروف الاقتصادية والجيوسياسية الحالية لعبت دوراً كبيراً في دعم هذا الاتجاه الصعودي. فالتوترات في الشرق الأوسط، أضافت مشاعر من عدم اليقين للمستثمرين، ما عزز من جاذبية الذهب كملاذ آمن. إلى جانب ذلك، اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية الذي يزيد من الشكوك، مما يدفع المتداولين للبحث عن الأصول الأكثر أماناً، والذهب بالطبع أحد أبرز هذه الأصول.
اقرأ: الذهب يرتفع وسط تكهنات بشأن السياسة النقدية الأمريكية – تحليل خاص
وبالنظر إلى هذه العوامل، فإن الأسعار المعتادة التي تؤثر في الذهب، مثل الدولار الأمريكي وأسعار الفائدة، لم تعد قادرة على تفسير هذه الزيادة الكبيرة. لكن التوترات الجيوسياسية والانتخابات الأمريكية قد تكون عوامل أكثر أهمية في هذه الفترة. وفي هذا السياق، يُلاحظ أن صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب شهدت تدفقات مستمرة في جميع أيام الأسبوع الماضي، ما يعزز من الاعتقاد بأن المستثمرين يرون في الذهب أداة للتحوط ضد المخاطر.
وأعتقد أنه رغم هذا الاتجاه الصعودي القوي، لا يمكن تجاهل احتمالية حدوث تصحيح قريب في الأسعار. فقد وصلت أسعار الذهب إلى مستويات قد تبدو مرتفعة بشكل مبالغ فيه، كما أن مؤشر القوة النسبية (RSI) يشير إلى أن السوق دخلت منطقة ذروة الشراء. وهذا المؤشر عادة ما يكون إشارة إلى احتمال حدوث تراجع أو تصحيح في الأسعار في المستقبل القريب، خاصة مع استمرار ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأمريكية، مما قد يؤثر على جاذبية الذهب مقارنة بالأصول الأخرى.
اقرأ: التهديد الصيني وتأثيره على الذهب
ومن هنا يأتي السؤال: هل سيستمر هذا الارتفاع في ظل الظروف الحالية، أم أننا على أعتاب تصحيح محتمل؟ الواقع بالنسبة لي يشير إلى أن العوامل الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة تجعل من الصعب تقديم توقع دقيق. ففي حين أن التوترات في الشرق الأوسط والانتخابات الأمريكية تدفع المستثمرين نحو الذهب، فإن السياسات النقدية للبنوك المركزية قد تلعب دوراً حاسماً في تحديد المسار المستقبلي للأسعار.
فعلى سبيل المثال، تراجع الدولار الأمريكي الطفيف قد يكون عامل دعم إضافي لأسعار الذهب، خاصة إذا استمرت التوقعات المتعلقة بخفض أسعار الفائدة. ومع ذلك، فإن التوقعات المتزايدة على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لن يخفض أسعار الفائدة بشكل كبير في المستقبل القريب قد تحد من أي انخفاض في قيمة الدولار، وبالتالي قد تؤدي إلى تراجع طفيف في أسعار الذهب. كما أن ارتفاع عائدات سندات الخزانة قد يؤثر على الذهب على المدى القصير.
لكن ماذا عن الاتجاهات بعيدة المدى؟ برأيي من المتوقع أن يستمر الذهب في الارتفاع على المدى الطويل، خاصة إذا استمرت التوترات الجيوسياسية في التصاعد ولم تُحل الأزمات الاقتصادية العالمية. الذهب يُعتبر دائماً ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات، وهذا لم يتغير. ومع تصاعد المخاطر السياسية والاقتصادية، يمكننا أن نتوقع استمرار تدفق رؤوس الأموال نحو هذا الأصل القيم.
اقرأ: الذهب قرب أعلى مستوى له على الإطلاق
ومن ناحية أخرى، يجب النظر إلى احتماليات حدوث تصحيح في الأسعار قد يكون عميقاً. فعندما تصل الأسعار إلى مستويات قياسية جديدة، عادة ما تتبعها مرحلة من التصحيح الطبيعي. وبالتالي، فإن التوقعات تشير إلى احتمالية حدوث انخفاض مؤقت في الأسعار قبل استئناف الاتجاه الصعودي مرة أخرى.
وفي النهاية، يبقى الذهب أحد الأصول الأكثر جاذبية في ظل الظروف الحالية. التوترات الجيوسياسية والانتخابات الأمريكية تشكل خلفية قوية لدعم الأسعار على المدى القريب، لكن لا يمكن تجاهل احتمال حدوث تصحيح قريب في الأسعار نظراً للوصول إلى مستويات قياسية مرتفعة. ومع استمرار تدفقات الاستثمار والتقلبات الاقتصادية العالمية، يبدو أن الذهب سيبقى في دائرة الضوء كملاذ آمن في ظل هذه الأوقات المضطربة.
تحليل: رانيا جول