في الثاني والعشرين من مارس، أعلنت منظمة الصحة العالمية أنَّ سلالة أوميكرون الفرعية “بي إيه.2” BA.2 قد أصبحت السلالة السائدة عالميًّا من فيروس “سارس-كوف-2″، الذي يُسَبِّب مرض “كوفيد-19″، هناك تشابهاتٌ جينية كبيرة بين هذه السلالة وقريبتها “بي إيه.1” BA.1، التي تسببت في زيادة حدة انتشار عدوى “كوفيد-19” من جديد على الصعيد العالمي خلال الأشهر الأخيرة، إلا أنَّ سلالة “بي إيه.2” مُعدِيَةٌ أكثر من “بي إيه.1” بنسبةٍ تتراوح بين 30% و50%.
والآن، مع اجتياح هذه السلالة الجديدة من فيروس “سارس-كوف-2” للكرة الأرضية بأكملها، يتساءل مَن أنهكتهم الجائحة السؤال نفسه في كل مكان: هل أصبح مُحَتَّمًا علينا أن نواجه متحورًا تلو الآخر، كل واحدٍ أكثر عدوى من سابقه؟
يقول جيفري شامان، خبير نمذجة الأمراض المعدية بكلية الصحة العامة في جامعة كولومبيا: “ما زلنا لا نعرف كامل قدرة هذا الفيروس على التطور والتحوُّر إلى سلالاتٍ جديدة جذريًّا”، ووفقًا لشامان وعلماء آخرين، فإنَّ فيروس “سارس-كوف-2” ما زالت لديه فرصةٌ كبيرة ليتطور جينيًّا من حيث الطريقة التي يصيب بها الخلايا البشرية بالعدوى، ويتملَّص من جهاز المناعة؛ إذ يُمكِن أن تظهر سلالاتٌ جديدة نتيجة التغيُّرات التَّدريجيّة في التسلسل الجيني للفيروس، بَيْدَ أن السلالات شديدة التَّحوُّر من الفيروس التي تختلف كثيرًا عن أسلافها “ظهرت فجأةً”، وفق ما قال رالف باريك، اختصاصي الفيروسات بجامعة نورث كارولاينا في مدينة تشابل هيل الأمريكية، واستطرد باريك قائلًا: “وإذا كان لأيٍّ من هذه السلالات أفضليةٌ على سابقاتها من حيث قدرتها على إصابة الخلايا بالعدوى، أو التملُّص من جهاز المناعة، فسنشهد زيادةً في انتقال العدوى مقارنةً بالسلالات التي ظهرت من قبل”.
جميع مُتَحَوِّرات أوميكرون الفرعية اكتُشِفَت في الوقت نفسه تقريبًا في شهر نوفمبر الماضي بجنوب إفريقيا، وهذه السلالات الجديدة والمختلفة جذريًّا من الفيروس فاجأت الكثير من العلماء، الذين كانوا يتوقعون أنَّ السلالة السائدة التَّالية ستنحدر تدريجيًّا من المُتَحَوِّر “دلتا”، لكن سرعان ما تفوقت سلالة “بي إيه.1” على “دلتا”، وأصبحت السلالة السائدة في جميع أنحاء العالم، في حين تأخر انتشار سلالة “بي إيه.2″، واقتصر تفشِّيها “على منطقةٍ ريفية على الأرجح، حيث لم تكن لديها الفرصة الأولية نفسها للانتشار”، وفق ما أوضحت بيت كوربر، عالِمة البيولوجيا الحوسبية، التي تدرس الأمراض الفيروسية في مُختَبَر لوس ألاموس الوطني بولاية نيو مكسيكو، لكن بعد أن وصلت “بي إيه.2” إلى مجتمعاتٍ أكبر وأقل انعزالًا “بدأت في الانتشار بسرعة”، وبمجرد أن تَمَكَّنت من الانتشار إلى بلدانٍ أخرى، تفشت تلك السلالة في جميع أنحاء إفريقيا وأوروبا وآسيا، وهي مسؤولةٌ حاليًّا عن نحو 55% من جميع الإصابات الجديدة بفيروس “سارس-كوف-2” في الولايات المتحدة، وفقًا لأحدث البيانات الواردة من وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
ووفقًا للسيناريو الأرجح، فإنَّ المُتَحَوِّرين الفرعيين “بي إيه.1” و”بي إيه.2″، ومعهما مُتَحَوِّرٌ فرعيّ ثالث منحدر من “أوميكرون” لم ينجح في الانتشار، وهو “بي إيه.3” BA.3، تطورت كلها بينما كانت هناك عدوى مزمنة متفشية بين مجموعةٍ سكانية صغيرة ضعيفة مناعيًّا، ويقول ستيفن جريفن، اختصاصي الفيروسات في كلية الطب بجامعة ليدز في إنجلترا: إنَّ الانتقال المتكرر لتلك السلالات بين أفراد هذه المجموعة السكانية وفَّر للفيروس على الأرجح “مساحةً للتدرُّب”، ما أتاح له أن يجرب ويختبر طفراتٍ جديدة سمحت له بالانتشار بكفاءةٍ أكبر.
وانتهى الأمر بسلالة “بي إيه.1” وقد اكتسبت 60 طفرةً غير موجودة لدى سلفها “سارس-كوف-2″، الذي ظهر لأول مرة في مدينة ووهان الصينية، من بينها 32 تغيرًا جينيًّا تقع تحديدًا في البروتين الشوكي الشهير للفيروس، والذي تستهدفه الخلايا المناعية واللقاحات، وسلالة “بي إيه.2” لديها عددٌ كبير من تلك الطفرات أيضًا، لكنَّها اكتسبت كذلك 28 تغيرًا جينيًّا فريدًا خاصًّا بها، أربعةٌ منها في البروتين الشوكي.
ووفقًا لباريك، فإنَّ “أوميكرون” هو أول مُتَحَوِّر من الفيروس يتطور في ظل تحسُّن مناعة البشر نتيجة تلقِّيهم اللقاحات، وإصاباتهم السابقة بالسلالات الأخرى منه؛ فالمُتَحَوِّرات السابقة “ألفا” و”بيتا” و”جاما” و”دلتا” كانت تتنافس معًا على مقعد السيادة بناءً بالأساس على مدى فاعليتها في إصابة الخلايا البشرية بأعدادٍ كبيرة، وانتقالها فيما بين الناس، لكنَّ “أوميكرون” كانت لديه ميزةٌ إضافية منحته أفضليةً أكبر، تمثَّلت هذه الميزة في قدرته على مقاومة الدفاعات المناعية المضادة للمُتَحَوِّرات السابقة له، وبذلك زاد عدد الأشخاص المُعَرَّضين للإصابة به بين البشر، فوفق باريك، هناك اختلافٌ ضخم بين استجابة الأجسام المضادة المُحيِّدة لسلالة “أوميكرون” واستجابتها للمُتَحَوِّرات السابقة، هذه الأجسام تعوق الفيروس عن الارتباط بمستقبلات ACE2، التي ينفذ عبرها إلى الخلايا البشرية، لكن وفقًا لباريك، ففي حالة “أوميكرون” هناك “انخفاضٌ في مستويات الأجسام المضادة بمقدار 15-50 مرة، اعتمادًا على مَنْ يُجري الفحوصات، والمدة التي مضت منذ الإصابة بالعدوى، أو منذ الحصول على الجرعات المعزِّزة للمناعة”.
وفي الوقت الحالي يركز كثيرٌ من الأبحاث على تحديد الطفرات التي تسمح للمُتَحَوِّر “أوميكرون” بـ”التملُّص” من الأجسام المضادة المُحيِّدة، ويبدو أنَّ بعض تلك الطفرات على الأقل يؤثر على أجزاء البروتين الشوكي التي ترتبط بمستقبلات ACE2، في السلالة الأولى من الفيروس، كان من شأن تلك الطفرات أن تتعارض مع قدرة الميكروب على إصابة الجسم بالعدوى، لكن يبدو أنَّ وجود هذه التغيُّرات في سلالة “أوميكرون” لا يؤثر في قدرتها على الارتباط بمستقبِلات ACE2، ويقول رام ساسيسكاران، اختصاصي الهندسة البيولوجية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: إنَّه ما دام الفيروس يملك هذه الطفرات “فيُمكِننا أن نتوقع استمرار المُتَحَوِّرات الشبيهة بأوميكرون في الظهور، مدفوعةً في المقام الأول بحاجة الفيروس إلى مراوغة المناعة، وليس بالحاجة إلى زيادة قدرته على الإصابة بالعدوى”.
غير أنَّ القدرة على الإصابة بالعدوى ومراوغة المناعة كلتاهما مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، والوقوف على دور كلٍّ منهما في انتشار الفيروس هو تحدٍّ صعب للغاية، بالأخص في المرحلة الحالية من الجائحة؛ فقد طُرحت العشرات من اللقاحات المضادة للفيروس، واجتاحت العالم سلالاتٌ عديدة منه، وحالات العدوى واللقاحات تُحفِّز المناعة من خلال مجموعةٍ مذهلة من العوامل المختلفة، وبهذا فإنَّ الوضع -وفق باريك- “يزداد فوضويةً أكثر فأكثر، إلى درجةٍ تُصَعِّب على المجتمع العلمي دراسة المسألة”.
لكن لحسن الحظ، تشير الأدلة المتوافرة حتى الآن إلى أنَّ الأعراض التي يسببها المُتَحَوِّر الفرعي “بي إيه.2” ليست أشد من تلك التي يسببها المتحور “بي إيه.1” لمَن تلقوا التَّطعيم أو أصيبوا من قبل بالفيروس، وفقًا لساسيسكاران.
ومن الواضح أنَّ “بي إيه.1” تفوَّق على “دلتا”، وإلى حدٍّ كبير يرجع ذلك إلى قدرته على التملُّص من جهاز المناعة، لكن إلى أي مدى يمكن للمناعة المُكتَسَبة من الإصابة السابقة بسلالة “بي إيه.1” أن تحمينا من الإصابة بسلالة “بي إيه.2″؟
تشير الأدلة الأوَّلية إلى أنَّ البعض يصابُ بالفعل بالمُتَحَوِّر “بي إيه.2” بعد الإصابة بالمتحور “بي إيه.1″، إلَّا أنَّ هذا نادر الحدوث، ويقول جريفن عن ذلك: “إذا كنتَ قد أُصِبت بالمُتَحَوِّر “بي إيه.1″، فأنت على الأرجح تتمتع بحمايةٍ جيدة من “بي إيه.2″، لكنَّ هذه الحماية ليست تامة”، ويتوقع العلماء أنَّ المناطق التي بلغ فيها المتحور “بي إيه.1” ذروة انتشاره بالفعل، ووصل إلى مستوياتٍ مرتفعة من التفشي، قد لا تشهد زياداتٍ كبيرةً في معدلات انتشار المتحور “بي إيه.2” لاحقًا؛ ففي جنوب إفريقيا مثلًا، تراجع “بي إيه.1″ سريعًا بعد أن بلغ ذروة انتشاره في ديسمبر الماضي، و”بي إيه.2” لا يمثل في الوقت الحالي “مشكلةً كبيرة”، وفق ما قالت جولييت بوليام، اختصاصية الأوبئة التي تدير مركز التميز في النمذجة والتحليلات الوبائية بجامعة ستيلينبوش في جنوب إفريقيا، والذي يتبع المؤسسة الوطنية للأبحاث (NRF) ووزارة العلوم والابتكار (DST)، واستطردت بوليام موضحةً أنَّ “أعداد الحالات لدينا منخفضةٌ جدًّا في الوقت الراهن”.
وحاليًّا، يتتبع الخبراء بعناية منحنى انتشار “بي إيه.2” في الولايات المتحدة، حيث تفشَّى “بي إيه.1” أيضًا في وقتٍ سابق من العام الحالي، وقد انخفضت حالات “كوفيد-19” هناك بنسبة 35% خلال الأسابيع الأخيرة، حتى عندما صارت سلالة “بي إيه.2” هي السلالة السائدة، وهناك مناطق من الولايات المتحدة، من بينها بعض الولايات الشمالية الشرقية، تشهد ارتفاعًا طفيفًا في حالات الإصابة بالفيروس، لكنَّنا لا نعلم ما إذا كنا سنشهد لاحقًا زيادةً مفاجئة في انتشار المرض على صعيد الدولة كلها أم لا، ويعلق باريك على ذلك قائلًا: “الوضع مبهم في الوقت الحالي”.
وهناك عوامل أخرى تؤثر في انتشار سلالة “بي إيه.2″، منها نسبة الحاصلين على اللقاحات والجرعات المعززة، وتدابير الصحة العامة المضادة لانتشار المرض، ومتوسط عُمْر السكان؛ فالارتفاع الهائل في حالات الإصابة بتلك السلالة في هونج كونج مثلًا أُرجِعَ جزئيًّا إلى تردد كبار السن تجاه تلقِّي اللقاحات، ويعتقد جون مور -اختصاصي الفيروسات في كلية طب وايل كورنيل التابعة لجامعة كورنيل- أنَّ معدلات انتشار تلك السلالة في البلدان الأوروبية والمملكة المتحدة زادت زيادةً حادة نتيجةً لتخفيف القيود المفروضة لمنع انتشار مرض “كوفيد-19″، وأضاف مور: “تصرَّفت الحكومات في تلك البلدان، ولا سيَّما في المملكة المتحدة، وكأنَّ الوباء قد انتهى، وأنَّها تدعو الناس للاحتفال، وهذا هو كل ما يحتاجه مُتَحَوِّرٌ ذو قدرةٍ كبيرة على الانتقال فيما بين الناس”.
وإذا كان هناك جانبٌ مضيء لتوالي تلك المُتَحَوِّرات التي تزداد قدرةً على الانتقال بين البشر مع الوقت، فهو أنَّها تتطور بالتوازي مع تطور مناعة السكان؛ فكل مُتَحَوِّرٍ جديد قد يتسبَّب في عددٍ أقل من الوفيات ببساطة لأنَّ المزيد من الأشخاص صاروا قادرين على مقاومة العدوى وحالات المرض الحادة، لكنَّ شامان يشير إلى أنَّ فيروس “سارس-كوف-2” معرَّضٌ للتغيُّر أكثر بكثير من فيروسات الجهاز التنفسي الأخرى التي تَعَلَّمنا أن نتعايش معها، وفي نهاية المطاف، لا بد لقدرة مُتَحَوِّرات الفيروس الجديدة على الانتقال من الاستقرار عند مستوىً معين، تمامًا كما فعلت فيروسات كورونا المُسَبِّبة لنزلات البرد العادية، لكنَّنا في الوقت الحالي “نجهل ماذا سيحمل لنا العقد القادم فيما يتعلق بهذا الفيروس”، وفق ما أوضح شامان، الذي ختم قائلًا: “لذا يتعيَّن علينا متابعته عن كثب”.
وكالات