•  الشعور بالحبّ يوقظ في الذاكرة آثارًا نرجسيّة ويشعر الفرد بأهميّة وجوده
  • الحب جماليّة تجعل الحياة تستحقّ عناء أن تُعاش
  •  يتأثر الحبيب وجدانيًّا بالمحبوب إلى حدّ الإدمان
الباحثة والاختصاصية في علم النفس د. بولا حريقة
الباحثة والاختصاصية في علم النفس
د. بولا حريقة

* الوقوع في الغرام.. ماذا تعني هذه العبارة؟

– لو تمعّنا في عبارة «الوقوع في الغرام» لتبيّن لنا أنّ ثمّة ما يشبه المصيدة التي لا تُحاك خيوطها من تلقاء نفسها بل أن هناك مَن يخطّط وينفّذ، في حين أنّ الحبّ لا يعرف التخطيط بل هو تجاذب مغناطيسيّ لا يأسر اثنَين إنّما يحرّرهما من عبوديّة الذات والأنويّة للتواصل وجدانياًوعاطفياً وروحياً. لذلك أسمح لنفسي بالاعتراض على هذه العبارة الشائعة لقناعتي بأنّ الحبّ سموّ وترفّع ونهوض وليس وقوعًا. وإذا كان في عبارة «الوقوع في الغرام» دلالة على غموض «الحب» لكونه ما زال اللغز الأكبر، إلاّ أنّه جماليّة فوق طبيعيّة تجعل الحياة تستحقّ عناء أن تُعاش. لذا هو ضرورة حتميّة ليشعر الإنسان بإنسانيّته، والإنسانيّة لا يمكن أن تكون سقوطًا.

* ما هي العوارض الفيزيولوجيّة الظاهرة التي نلحظها على ذواتنا؟

– تختلف العوارض بين الحبّ الوليد، أي في بدايته، وبين الحبّ في مراحله العمريّة الأخرى. ففي البداية يتأثّر نشاط بعض المناطق الدماغيّة سلباً أو إيجاباً، إذ يلاحَظ إنخفاض عمل المناطق الدماغيّة المسؤولة عن التقييمات الاجتماعيّة والسلبيّة، ما يمنع المحبّ من اكتشاف عيوب المحبوب، ويعيقه عن التفكير النقديّ، ويضعف نشاط المناطق المسؤولة عن الذاكرة والتركيز والاكتئاب، في حين تزداد الطاقة البدنيّة والاهتمام المركّز حول شخص المحبوب والتمتّع بأدقّ تفاصيل العلاقة، وتقلّ الحاجة الطبيعيّة إلى الطعام والنوم، إضافة إلى تسارع ضربات القلب عند الاستعداد للقاء المحبوب أو عند سماع صوته عبر الهاتف أو رؤية رقمه عبر شاشة الخلويّ. لكنّ إرتجاف اليدين والتلعثم، في بداية العلاقة، من العوارض الملاحظة بشكل أكبر عند الإناث في مراحل عمريّة معيّنة لا سيّما منهنّ اللواتي يعانين الخجل.

الحب جماليّة تجعل الحياة تستحقّ عناء أن تُعاش
الحب جماليّة تجعل الحياة تستحقّ عناء أن تُعاش

* هل يحوّلنا الحبّ إلى شخص آخر؟

– مع الحبّ لا يتحوّل الشخص إلى آخر بل هو يولد من جديد.

* ما الذي يغيّره الحبّ فينا؟

– كلّ شيء، إنّه أشبه بعاصفة من ألحان وأحلام، يُدخل إلى النفس السعادة ويحيط الحياة بالأمل، يمدّ الجسم بالطاقة والحيويّة، يبدّد الصعوبات لكون المحبّ بدأ يشعر بوجود آخر يسانده ويشاركه همومه ومشاكله، يسديه النصح ويقدّم له المشورة، يقلق عليه وعلى حاضره ومستقبله. كما أنّ الحبّ يجعل من الانتظار الذي كان من قبل ثقيلاً وصعب الاحتمال ممزوجًا بالفرح واللهفة، هو الذي يجعل المحبّين يرون نوراَ لامعًا في الظلام الدامس، يزرع الضحك حيث كان العبوس رابضاً، والفرح حيث تجذّ الحزن، والأمن النفسيّ حيث المعاناة الطويلة من اللاستقرار، يحيي الروح بعدما تكون قد قتلتها صعاب الحياة، ينتشل الفرد من عمق اليأس إلى ذروة الأمل.

* أليس لهذه الصور الجماليّة والرومانسيّة تفسيرات نفسيّة؟

– بلى، فالشعور بالحبّ يوقظ في الذاكرة آثراًنرجسيّة لذلك لا يشعر الفرد بأهميّته الذاتيّة وأهميّة وجوده إلاّ في الحبّ مهما حقّق من النجاح والتألّق، لأنّ الحبّ وجه من أوجه البحث عن صورة الذات في الآخر والشعور بالقيمة الذاتيّة وصولاً لتحقيق الاكتفاء النفسيّ الذي يتبلور من خلال شعوره بأنّه مرغوب ومقبول ومحطّ اهتمام خاصّ ومميّز من قِبَل شخص يحتاج إليه وحده دون سواه. وبالرغم ممّا أشرنا إليه أنّ المحبّ يريد الخير والسعادة لمحبوبه إلاّ أنّ هذا أيضًا هو شكل من أشكال النرجسيّة لأنّ سعادة الآخر الضروريّة تنعكس سعادة على الذات أيضًا. وانطلاقًا من هذه الأسباب النرجسيّة يمكننا تفسير الغيرة التي يعاني المحبّون مرارتها.

 يتأثر الحبيب وجدانيًّا بالمحبوب إلى حدّ الإدمان
يتأثر الحبيب وجدانيًّا بالمحبوب إلى حدّ الإدمان

* كيف نعرف أنّ هذا الحبّ ليس نتاج حالة فراغ ربّما أو تعويض؟

– طبيعة العلاقة وسير نموّها وتطوّرها يحدّدان ما إذا كانت نتاج حالة فراغ أم هي تعويض. ففي الفراغ يصبح وجود المحبوب مصدر العزاء، ويعيش المحبّ القلق من فقدان حبيبه لئلاّ يقع مجدّدًا في الفراغ. لكنّها علاقة تفتقد إلى الكثير من الرومانسيّة والحلم والاندماج والتكامل، بل تتوّجها الحاجة لوجود طرف يولي الطرف الآخر الاهتمام والرعاية، لذلك يتشبّث به بكلّ ما أوتي من دفع نفسيّ في ما يشبه التعلّق الذي هو مظهر آخر من مظاهر قلق الانفصال. أي أنّ الفرد لن يحتمل الانفصال عن المحبّ خوفًا من أن يغرق في وحشة الفراغ من جديد. أمّا معرفة ما إذا كان هذا الحبّ تعويضاً فالمسألة تتعلّق بتاريخ الفرد العاطفيّ والعلائقيّ وبصراعاته وفشل تجاربه العاطفيّة وإحباطاته السابقة. فمَن عانى القصور العاطفيّ في مراحل حياته الأولى بشكل خاصّ، والمراحل العمريّة الأخرى بشكل عام، سينشأ حاملاً جرحاً نرجسياً يُمضي بسببه العمر باحثاًعمّن يمنحه الحنان والاهتمام والرعاية، ما يعني أنّه يدور في فلك المحوريّة الذاتيّة لاستعادة أهميّته ولمداواة جرحه النرجسيّ.

* كيف ندرك أنّ الحبّ الذي نعيشه هو الحقيقيّ الذي نصبو إليه؟

– يحتاج الحبّ الحقيقيّ إلى الكثير من النضج ليصبح حياة لا حالة. وهذا ما كان الشغل الشاغل للباحثين النفسيّين الذي توصّلوا إلى استنتاجات متعدّدة أهمّها تلك التي أطلق عليها العالم النفسيّ روبرت ستيرنبرغ تسمية «مثلّث الحبّ» الذي يتألّف من ثلاثة أضلع هي:
١- العلاقة الحميمة وتتضمّن الدعم العاطفيّ المتبادل، التفاهم والتقدير المتبادلان، السلوكيّات التي تشيع الدفء في العلاقة منها التواصل الإيجابيّ الصادق، الشعور بالأمن النفسيّ، المشاركة في كلّ تفاصيل العلاقة، إختبار السعادة وعيشها معًا.
٢- العاطفة والانفعال ويشملان العاطفة الجنسيّة والحاجة إلى الثقة بالنفس والشعور بالانتماء.
٣- القرار بالتزام أحدهما بالآخر والمحافظة على هذا الحبّ.
لذلك لا يمكن للحبّ أن يكون «حقيقياً» إلاّ إذا اكتملت هذه العناصر التي تجعل طرفاً يشعر، وهو بمعيّة الطرف الآخر، بأنّه في حال من التكامل والتوافق.

الشعور بالحبّ يوقظ في الذاكرة آثارًا نرجسيّة
الشعور بالحبّ يوقظ في الذاكرة آثارًا نرجسيّة

* ما هي الإشارات التي يرسلها الآخر لنفهم منه أنّه يحبّنا؟

– تختلف الإشارات باختلاف المرحلة العمريّة. ففي المراهقة وحتّى أواحر العشرينيّات تكون الإشارات كلاميّة وسلوكيّة في آن واحد ما يجعلها أكثر وضوحًا. أمّا في المراحل العمريّة الأخرى فتكون الإشارات سلوكيّة نظرًا للخبرات السابقة والنضج الذي من المفترض أن يكون قد حقّقه، لأن الخطأ في الاختيار غير مسموح. ومن تلك الرسائل نذكر على سبيل المثال لا الحصر الاهتمام الذي يبديه تجاه الآخر وتفضيله على غيره وإن بشكل غير مبالغ فيه، البحث عن أسباب موجبة ومقنعة لمحادثته أو لقائه، خصّه بالهدايا في مناسبات وظروف مدروسة بعناية، إسداؤه النصح وطلب المساعدة منه، مناقشته في الأمور العامّة وتمرير بعض الأمور الخاصّة للتعرّف إليه بعمق وإدراك أساليبه في معالجة القضايا العامّة والخاصّة، إلى غير ذلك من الرسائل التي، وإن تعدّدت، لا تحتاج إلى الكثير من الجهد لالتقاطها وفهمها بالرغم من أنّها مشوبة بالحذر والتروّي.

* كيف يتحقّق النضج في العلاقة؟

– يتطلّب النضج بعض الجهد والعمل الدؤوب لتحقيقه من خلال اعتماد جملة من المسلّمات منها: أن يتمتّع كلّ من الشريكَين بالقدرة على لوم الذات عند الخطأ فلا يحمّل الآخر مسؤوليّة حزنه أو إحباطاته أو فشله، بل يعمل على تطوير سلوكٍ إيجابيّ يُفهم من خلاله شريكه الحاجة إليه لمساندته ودعمه؛ الوعي بأنّ العلاقة لا تخضع للشروط والحسابات بل تقوم على القبول والتفاهم والمشاركة؛ مناقشة أدقّ التفاصيل المتعلّقة بأيّ مشكلة شخصيّة ونفسيّة ومهنيّة والاقتناع بأنّ هذه المناقشة لا تنبع من محاولة الواحد السيطرة على الآخر وتكبيله وقمع حريّته بل من الحرص على مصلحته وسعادته وهنائه، الاقتناع بأنّ نجاح الواحد، سواء في العلاقة أو في العمل، لم يكن ليحصل لولا مساهمة الآخر ودعمه المعنويّ والعاطفيّ والوجدانيّ، أن يجهد كلّ منهما في التركيز على إيجابيّات الآخر وليس على سلبيّاته، إحترام الحريّة الشخصيّة للشريك؛ الثقة والاحترام المتبادلان، التكافؤ العاطفيّ والوجدانيّ، أن يغذّي كلّ طرف نفسه وكيانه من خلال الآخر ليصل إلى أعلى درجة من الرقيّ في التواصل والتفاعل.

نضال الأحمدية – Nidal Al Ahmadieh

Copy URL to clipboard

شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار