منذ 8 سنوات - الغيرة مزيج من الشعور بانعدام الأهمية الذاتية العالية والاحتقار النفسي
- الشعور الدفين بالنقص هو أهم أسباب الغيرة
- للغيرة عوارض تختلف بأنوعها
- إحدى أنواع الغيرة تكون بين الأشقّاء
- تحدث الغيرة نتيجة شعور الغيور بأن منافساً يحاول سرقة امتيازاته
- الغيرة هي حالة مرضيّة وليست مرضاً
- قابين قتل أخاه هابيل حسداً.. ولهذا سمّيت الغيرة «عقدة قابين»
- التهميش والحرمان العاطفي في الطفولة يولّدان عدم الثقة أو الغيرة!
- مهما تعددت الأسباب المولّدة للغيرة فإنها تعبّر عن عدم الثقة بالذات
د. بولا حريقة
* كيف يعرِّف علم النفس الغيرة؟
– الغيرة حالة نفسيّة تنشأ نتيجة شعور الغيور بأن منافساً يحاول سرقة امتيازاته ويهدد موقعه ما يولّد القلق على المصير.. لذا، فالغيرة هي ترجمة سلوكية لشعور سلبيّ لا واعٍ يجتاح الغيور، ما يعني، في شكل من الأشكال، وجود الحسد الذي يُعتبر مرحلة من نموّ الشعور الذي يؤدّي إلى الغيرة. لذلك، يرى علم النفس أنّ الغيرة هي حسد الآخر على الغنائم التي يتمتع بها، والرغبة في الاستيلاء عليها والتنعّم بها.. وتبقى الغيرة حالة صحية إذا لم تخرج عن الحدود الطبيعية أو عن المألوف.
* كيف نلمس الغيرة، وما هي عوارضها؟
– تختلف العوارض باختلاف أنواعها، مثل الغيرة الأخويّة، أو الزوجيّة، أو الغيرة في العمل.
* ما هي عوارض الغيرة الأخويّة؟
– في الطفولة الأولى، تظهر عوارض عدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: السلوك العدوانيّ تجاه المولود الجديد، أو كبت العدوانيّة التي ترتدّ على الذات أو تتجلى بمظاهر مرضية متعدّدة كالسعال وارتفاع الحرارة والالتهابات، والبكاء والحساسية المفرطة إزاء الملاحظات، كالتأتأة، مص الإصبع، العناد والعصيان، ثورات الغضب الحزن والخوف، ضرب الأطفال الآخرين والقسوة على الحيوانات إذا وُجدت في المنزل، عضّ الإصبع ومصّه، التخلي عن النظافة، الامتناع عن الأكل، التعدي على ملكية الغير ورفض الذهاب إلى حضانة الأطفال أو إلى المدرسة.
* وعوارض الغيرة الزوجية؟
– توتّر الطرف الغيور، القلق والحزن والاكتئاب والغضب والضيق، التعبير عن الشك كلامياً وسلوكياً، حساسية مفرطة إزاء كلّ محرّض، البكاء من دون سبب واضح، الأرق، الانفعال، مراقبة الطرف الآخر وحصر أنفاسه عنه بالأسئلة والاستجوابات، المبالغة في تفسير الكلام والتصرفات بشكل خاطئ، وتحميل الكلام والمواقف معانٍ بعيدة عن الحقيقة والمنطق.
* وبالنسبة للغيرة في العمل، ما هي عوارضها؟
– مثل توجيه الملاحظات السلبية، انتقاده والشكوى من سلوكه مع الزملاء، حَبك المؤامرات للتخلص منه، اتّهامه بالتقصير، والى ما هنالك من المشاعر السلبية التي يُعبّر عنها الغيور بشكل واضح، أو يكبت غيرته لترتد عليه توتراً وحزناً وغضباً.. فيصل به الأمر إلى افتعال أزمة غير مبررة وغير منطقية.
* لماذا تنشأ هذه الغيرة في رأيكِ؟
– بسبب امتياز يحصل عليه زميل من جانب صاحب العمل أو المسؤول عنه، ما يهيّئ لنشوء الغيرة، خصوصاً إذا كان المتميّز أو المفضّل لا يتمتّع بالميّزات والكفاءات التي جعلت منه محطّ اهتمام أو مقرّباً من ذوي السلطة.. هذا ما يخلق أجواء من التوتر والخلافات التي تؤثّر على العامل والمؤسّسة معاً.. لكن للغيرة بين الزملاء إيجابيات إذ بإمكانها أن تشكّل حافزاً للنجاح والمنافسة الشريفة.
* ما هي الأسباب الأكثر شيوعاً التي تدفع الشخص للشعور بالغيرة؟
– مهما تعددت الأسباب المولّدة للغيرة، فإنها تبقى، على اختلافها، تعبّر عن عدم الثقة بالذات وعدم الإحساس بالأمان، وانعدام الشعور بالأهميّة الذاتيّة، والعوز المعنوي والنفسي والمادي، والرغبة في أن يملك الفرد أكثر ممّا لديه، أو الرغبة في امتلاك الآخر.. لذلك، يُعتبر الشعور الدفين بالنقص أحد أهم تلك الاسباب.
* هل يمكن أن تصل الغيرة إلى حدّ الكراهية؟
– نعم، لأنّ الغيرة عبارة عن مزيج من المشاعر السلبيّة التي تتفاوت بين الشعور بانعدام الأهمية الذاتية الناجمة عن قلة الثقة بالنفس والغضب والعدوانيّة والشعور بالاحتقار، ما يعني أن وجود المنافس دليل على أن الغيور غير مؤهل للمحبة أو الحب، أو أن الكره كامن فيه، لذلك فهو غير مرغوب ومحبوب، ما أفسح في المجال أمام وجود المنافس.. وبالتالي، فإن فكرة كونه غير محبوب توقظ في نفسه الاكتئاب وجرحاً نرجسيّاً عميقاً يحاول الغيور مداواته أو التخلص منه أو التخفيف من حدته من خلال إدانة الآخرين وكرههم لعجزه عن كره ذاته.
* وهل تصل إلى الأذى أيضاً؟
– طبعاً، وفي مختلف الأعمار والأنواع، وقد تصل إلى القتل أيضاً.. وأقدم الأمثلة على ذلك هو «قابيل» الذي قتل أخاه هابيل حسداً، لذلك أُطلق على الغيرة اسم «عقدة قايين».. وكثيرة هي دعاوى القتل بسبب الغيرة بين المحبين.. أما بعيداً عن القتل، فالغيرة تعبير عن معاناة الفرد، بشكل لاشعوري، عاطفة مفادها غياب الحبّ والأهميّة، لذا يحاول الغيور أن يسقط على الآخر معاناته لعجزه عن البحث عن مشكلته في شخصه، فيتهيأ له أن المنافس يسبب له الأذى، مما يولد العدوانية والغضب اللذين، إذا لم يجدا متنفسات طبيعيّة ومعقولة، ارتدّا على الذات في صور مازوشية، وعلى الآخرين في ساديّة سلوكية كالضرب والعنف، وساديّة معنوية كالتشهير والنميمة والمؤامرات.
* هل يمكن أن نعتبر الغيرة مرضاً؟
– تصبح حالة مرضية عندما تتخطى، كما أشرنا، الحدود الطبيعية فتصبح مدمّرة.. وهذا ما يسميه علم النفس «الغيرة الذهنية الضلالية»، أي نشوء اعتقادات باطلة غير مبنية على حقائق أو أسس سليمة ومنطقية، إذ يقوم الغيور بربط الأحداث والمواقف بعضها ببعض من دون أن يكون بينها علاقة في الواقع، إلا أنها ذات دلالات بالنسبة إليه يعجز عن التخلص منها، ولا يقبل بمناقشتها لضعف دلائله وعقم منطقه.. وهذا ما يؤكد على وجود اضطراب نفسيّ يحتاج إلى علاج.
* ما هي أسباب الغيرة المرضية؟
– تعود الأسباب إلى الطفولة حيث يكون الفرد قد عانى التهميش والحرمان العاطفي وعدم الشعور بالأهميّة الذاتيّة الذين يولّدون عدم الثقة بالنفس، الشعور بالنقص، العوز العاطفيّ والتملّكيّة.. لذا يفتّش الفرد، في الآخر، عن إشباع رغباته وحاجاته.. ما يعني أنّ الغيرة المرضيّة تنطلق من الحاجة للآخر لتعويض الحرمان بكافّة أشكاله.. من هنا، فالغيرة المرضية تجد لها أرضاً خصبة في علاقات الحب والزواج بشكل خاص، لكون المحبوب أو الزوج هو مصدر الاستقرار والأمن النفسي اللذين يحتاجهما الغيور الذي يفتقد، أصلاً، للشعور بالسلام النفسيّ ويعاني مرارة القلق بشكل عام، أي القلق من الشعور بالعوز العاطفيّ الذي يولّد الرغبة بامتلاك الآخر لحماية الذات، القلق من خسارة موضوع الحب، القلق على المصير والقلق من فقدان الاطمئنان النفسيّ.
* ما هي المشاعر التي ترافق الغيرة المرضية؟
– الذلّ النفسيّ في الدرجة الأولى بسبب اعتقاد الغيور بأنّه غير محبوب، وأن الشريك تخلّى عنه لأنّه لم يكن طيّباً بشكل كافٍ ليستحقّ حبّه واهتمامه، فيسيطر عليه الخوف من فقدان «موضوع الحبّ»، أي الشريك، ويشعر بخطر يهدّد أمنه النفسيّ.. لذا يتحوّل إلى الغضب والعدوانيّة، ثمّ يندم على سلوكه ليغرق بالتعاسة والندم، ويبكي لشدّة إحساسه بالإثم، ثم يطلب المغفرة ويعد شريكه بالكفّ عن الغيرة.. لكنه سرعان ما يغرق في المشاعر السلبيّة لعجزه عن التخلّي عن إحساس لاواعٍ رافقه منذ الطفولة بأنّه غير محبوب.. وهذا الإحساس هو نواة الأزمة النفسيّة التي ولّدت الغيرة المرضيّة، وهو أيضاً سبب الشعور الدائم بالخوف من خطر يهدّد سلامته النفسيّة في ظلّ عجزه عن الدفاع عن ذاته.
*كيف نفرّق بين الغيور والشخص الذي يقلّد الآخرين مثل الأشخاص الذين يقلّدون نجومهم المفضّلين في الملابس والشكل؟
– في المثال الأوّل، يحدّد الغيور منافسه، أي أنه يختاره ليقلّده لأسباب متعددة، لذا لا يتعدّى الأمر كونه مجرّد تقليد للمنافسة، وهذا ما يختلف عن دوافع الغيرة موضوع بحثنا.. أمّا في ما يتعلّق بتقليد النجوم، فالأمر مختلف تماماً إذ إنّ النجم محطّ إعجاب، وهو في طلّته المشغولة بدقّة يصبح نموذجًا لشريحة واسعة من المجتمع يشكّل المراهقون الجزء الأكبر منها.. وهذا ما يُسمّى بالتماهي وليس بالغيرة.. وما التقليد سوى دليل على حاجة الفرد إلى نموذج يُحتذى لم يجده في المنزل أو العمل أو حتّى بين رجال السياسة، فيلجأ إلى التماهي بالفنّان للشعور بالجاذبيّة والرشاقة والجمال، ويعيش مع فنّانه المفضّل مجده وشهرته محاولاً من خلال هذا تحقيق الذات والتأثير بالآخر بغية الشعور بالأهميّة الذاتيّة.
*هل يمكن أن يتخطّى الغيور مشكلته فيصبح إنساناً عادياً؟
– بالطبع، سواء كانت الغيرة طبيعية أو مرضية، وذلك بخضوعه لعلاج نفسيّ يكشف النقاب عن صراعاته الدفينة ليتمكن من التخلص من شعوره بالدونيّة والنقص، ولبلورة ملكاته النفسية الكامنة وقدراته ليستعيد ثقته بنفسه وباهميته.
*هل الغيور غير المرضي شخص عانى من مشاكل في صغره كالحرمان المادي والعاطفي مثلاً؟
– يشكل الحرمان العاطفي النواة المولدة للغيرة أكثر من الحرمان المادي، خصوصاً بعدما أثبتت الأبحاث النفسيّة الحديثة أن الأطفال الذين يعانون عدم الاستقرار النفسي والعلائقي والحرمان العاطفي هم أكثر عرضة للغيرة من الذين عرفوا طفولة سعيدة مفعمة بالحبّ والرعاية والتواصل والاحترام، وبشكلٍ خاص التسامح والتفاهم من جانب ذويهم، بينما يُعتبر الحرمان المادي حافزاً للنجاح والتقدم.
نضال الأحمدية Nidal Al Ahmadieh
)
