بعد موجة الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها مارسيل خليفة بسبب رفضه أداء النشيد الوطني اللبناني أثناء افتتاحه مهرجان (بعلبك)، والتي كنا أول من تحدثنا عنها ثم لحقنا الجميع، أصدر بيانًا كتب به ما يلي: (كلنا للوطن… شوارع الوطن تفيض بالزبالة، الكهرباء مقطوعة 24 على 24، البيئة ملوثّة: الأكل والشرب والامراض، الناس تموت على باب المستشفيات. جبال الوطن تحوّلت إلى حصى ورمل… نشيدي في افتتاحية بعلبك كان لوطن عاصي ومنصور الرحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبة وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين. وطنهم هو وطني، كيفما التفت خصومك يحاصرونك بثرثراتهم، وأعداؤك يطالبونك بأن تدعهم يحبونك. ماذا تقدر أن تفعل ضد محبتهم؟ أقاوم الإعصار بوتر العود. (سهلنا والجبل ، منبت للفتن) أمكنة دبقة ومهسترة. لم يعد من الممكن العيش فيها مع الحياة. كل شيء موسّخ. ضاق ضاق الوطن! ليتنا نصبح على وطن لا يزال فيه العشب أخضر والماء ماء والأحلام أحلاماً… ولو خابت..).
إقرأ: مارسيل خليفة رفض أداء النشيد الوطني اللبناني، والغناء لأهل بعلبك – خاص
اللبنانيون منقسمون بين معارض ومهاجم لمارسيل خليفة، فئة دافعت عته لأنه صاحب مسيرة طويلة قدّم خلالها أجمل وأعمق الأعمال الوطنية، وأخرى هاجمت لأن النشيد الوطني خط أحمر ويمثل وطنًا لا يُبرر تجاهل غنائه، ولا نعاتب الفئتين لأننا ترعرعنا في بلدٍ ديمقراطي سمح بحرية التعبير “هيك بيقولوا المنافقين”.
ما يميز اللبناني عن العربي رغم تشابه بعض التقاليد والقيم، إن شخصيته كُوّنت من عوامل أنتجتها الاختلافات بنمط الحياة والتفكير، والانتماءات الطائفية والحزبية المتعددة على مدار عشرات السنين، لذا ترى من يؤيد ويعارض فكرةً واحدةً بأسرة صغيرة، ما سمح للملتزم والمتحرر أن يعيشا تحت سقف واحد رغم الحروب والخطابات التحريضية من الطبقات السياسية الحاكمة، ليتجاوزا حاجز انقسامهما واختلافهما، فيناقشا دون أن يقتلا ويجرّما، كما يحدث في سوريا والعراق وليبيا وباقي بتي عرب التي لم تعرف الحرية يومًا!
رغم ذلك، تظهر أحيانًا النزعة المذهبية والمناطقية عند البعض، كوننا ننتمي إلى مجتمعات اقطاعية يحكمها السياسيون على أسس طائفية، ما يفسر التناقض الذي حدث بردود الأفعال على موقفي مارسيل ونانسي عجرم التي فضحت ملفًا من الفساد يتعلق بمطار بيروت الدولي.
إقرأ: نانسي عجرم محتجزة في مطار بيروت، وابنتها ليا على كتفهت تبكي – فيديو وثائق
هاجم مارسيل ونانسي أنصار التيار الوطني الحر الذي يرأسه جبران باسيل، ويستلمون رئاسة البلاد ويطلقون على عهدهم لقب (العهد القوي)، لأنهما حكيا عن فساد البلاد ما يكشف ضعف الحكم الحالي، هؤلاء يحاربون كلّ من يفتح ملفًا ويفضح أمرًا يتعلق بالدولة، ونذكر ما تتعرض له النائب بولا يعقوبيان من حربٍ على اسمها وسمعتها، وغيرها كثر من الأحرار الذين لا يخضعون.
هؤلاء كانوا يصفقون لكلّ من يهاجم فؤاد السنيورة أيام توليه رئاسة الحكومة، ويتظاهرون ضد الفساد المتفشي والذي زاد أثناء وصولهم للحكم، ويهللون لكل فنان كان ينتقد عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، ويرفعون شعارات تنصر المواطن، لا الطبقة الحاكمة، لكن كل هذا نسوه أمام لذة الكرسي التي تذوقونها، ولم يُشفى بعد زعماؤنا العرب من عقدتها!
القاعدة تُطبق أيضًا على من يعارضون حكم العونيين كذلك، والذين كانوا صامتين طوال السنوات الماضية، ولم ينطقوا حرفًا إلا عندما عندما صار عون رئيسًا للجمهورية وجبران رئيسًا للتيار البرتقالي، أما الثابتون على مواقفهم بمحاربة الفساد لم يسكتوا يومًا وأطلقوا صوتهم عاليًا بأسؤا المراحل التي كاد يتحول بها لبنان إلى بلد ديكتاتوري، أي عند احتلال الجيش السوري للبنان، وظل الحاكمون على اختلافهم يعتقلونهم ويهاجمونهم ويختلقون عنهم الشائعات ويشوهون صورتهم ليبعدوا عنهم شبهات السرقة والفساد!
في سوريا، المواطن مكبوت منذ ولادته، يُلقّن كيف يعيش ككائن يأكل ويشرب وينام فقط، لا كإنسان حر وكيان يفكر ويعترض ويطوّر ويبحث ويناقش، عقيدة البعث الحاكمة تحكم عليه أن يتقن فن التصفيق بإستمرار، وأن يستخدم فمه للأكل فقط، وكلّ من يعارض هذا العرف يُرمى في السجون أو يُنفى أو يُخوّن وتشوه سمعته، وتلك العقيدة صارت تشكل جزءً من بنية الإنسان السوري الذي لا يسمع للرأي المختلف عنه، ويجلد من يخالفه، ويرفض الحرية ويدعيها بآنٍ معًا، وما يوثق كلامنا الحرب التي دارت لثمانِ سنوات، وأنتجت فئتين تقاتلتا ودمرتا واستبدتا وخوّنتا، وترفضان حتى اللحظة التعاون بينهما لتجنيب سوريا الكارثة الأكبر، وتفضلان أن يُدمر وطنهما على أن يقدم أحدهما تنازلًا.
المؤيدون يرشقون كلّ فنان يمد يده للمعارضة ويرفض أن يكون تابعًا للدولة، والمعارضون يهدرون دم كل فنان رفض أن يناصرهم وخاف على بلده الذي يأخذونه إلى المجهول ويسلمونه لداعش والنصرة وغيرهما من المتطرفين، والظلم الذي لحق أمل عرفة وعابد فهد وكندة علوش يوثق حالة الاضطراب النفسي التي يعيشها السوري.
إقرأ: منع أمل عرفة وعابد فهد من الظهور الإعلامي في سوريا
كندة علوش تبكي: لا أستطيع زيارة بلدي سامحوني وأسامحكم – فيديو
عربيًا، لا مكان للحرية حتّى اللحظة… في مصر يشتمون أنصار المخلوع مرسي كل فنان لم يؤيد حقبة الأخوان المتطرفة، والأكثر سخريةً العربان الذي يهاجمون السوري بشار الأسد ويؤيدون العراقي الراحل صدام حسين بالوقت عينه، أو العكس، رغم انهما من الحزب نفسه (البعث)، ونظامهما ديكتاتوري ولم يتح الحرية يومًا للمواطنين، لكنهما دافعا عن القضية الفلسطينية وقدما العديد من التضحيات من أجلها، والانقسام حولهما غير مبرر لتطابقهما، لكن العربان يناقضون أنفسهم: السني يحب صدام لأنه سني ويكره بشار لأنه علوي، والشيعي يحب بشار لأنه علوي ويكره صدام لأنه سني…
نسقط الطائفة والانتماء الحزبي على موقفنا من الانسان الذي أمامنا، لذا نتخلف ونتراجع للعصور الحجرية، إنها حالتنا المؤسفة التي سمحت للغرب أن يتحكم بأوطاننا وثرواتنا ومصائرنا… وما نقول بعد؟!
عبدالله بعلبكي – بيروت