في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة والبيانات الاقتصادية المتقلبة يتداول الذهب حالياً بالقرب من 2650.40 دولار خلال تعاملات اليوم الأربعاء، حيث يواجه سعر الذهب ضغوطًا هبوطية تعيق استمراره في الصعود بعد الارتفاع الحاد الذي شهده أمس. فقد ارتفع سعر الذهب بنسبة تزيد عن 1% بعد تصعيد الأحداث في الشرق الأوسط، مما دفع المستثمرين إلى اللجوء إليه كملاذ آمن.
لكنه سرعان ما عاود الهبوط، وذلك وسط علامات تشير إلى استمرار قوة سوق العمل الأميركية، وهو برأيي ما يحد من احتمالات تخفيف السياسة النقدية بشكل كبير من قِبل بنك الاحتياطي الفيدرالي. ومن وجهة نظر ي، هذه التحركات في الذهب تعكس توازنًا هشًا بين المخاوف الجيوسياسية والتوقعات الاقتصادية الأميركية، حيث يُعد أي انحراف في البيانات الاقتصادية أو الأحداث السياسية عاملًا محوريًا في توجيه الأسعار.
اقرأ: الذهب قرب أعلى مستوى له
كما يعود جزء كبير من هذا الضغط على الذهب إلى ارتفاع الدولار الأمريكي، الذي استمر في تعزيز مكاسبه خلال اليومين الماضيين. فالتعافي الملحوظ في الدولار يعزى بشكل أساسي إلى البيانات الإيجابية التي صدرت عن سوق العمل الأميركية، والتي جاءت أعلى من التوقعات. ي
حيث ُظهر تقرير “فرص العمل (JOLTS) ارتفاعًا غير متوقع في عدد فرص العمل المتاحة في أغسطس، مما يعزز الاعتقاد بأن الاقتصاد الأمريكي ما زال يتمتع بمرونة قوية، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة على الصعيد العالمي. وبرأيي، إن استمرار قوة سوق العمل الأميركية سيضعف من جاذبية الذهب على المدى القريب، إذ أن تراجع احتمالات تخفيف السياسة النقدية قد يعزز قوة الدولار ويقلص فرص الارتفاع للذهب، ما لم تظهر تغيرات حادة في المشهد الجيوسياسي.
اقرأ: مستقبل أسعار الذهب: ماذا بعد 2600 دولار؟
ولكن على الجانب الآخر، لا يزال احتمال حدوث تصعيد في الصراع بالشرق الأوسط يخفف من حدة التراجع في سعر الذهب. حيث عاد الخوف من نشوب حرب شاملة إلى المشهد مرة أخرى، مما أعاد إحياء الطلب على الذهب كملاذ آمن. فالتوترات السياسية في هذه المنطقة الحساسة تاريخيًا تلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على مستوى معين من الدعم لسعر الذهب.
فعلى الرغم من الضغوط الهبوطية التي يمارسها ارتفاع الدولار وبيانات سوق العمل الأميركية، يبقى هناك دعم قوي للذهب نتيجة المخاوف الجيوسياسية. وأعتقد أن هذه التوترات تبقى عاملًا داعمًا أساسيًا للذهب، إذ من المحتمل أن تكون أي تصعيدات دبلوماسية أو عسكرية سببًا في تحفيز عمليات شراء جديدة للذهب، مما يحد من خسائره.
اقرأ: الذهب يواصل مكاسبه التاريخية
وبالنظر إلى هذه العوامل المتناقضة، يتخذ المستثمرون نهجًا حذرًا تجاه الذهب، حيث يرون أن أي تراجع في السعر يمثل فرصة للشراء في ظل الظروف الحالية. وبالنسبة لي فالتحليل الفني والاقتصادي الأساسي يظهر أن سعر الذهب قد يبقى متذبذبًا في المستقبل القريب، مع احتمالية أن يبقى فوق مستويات الدعم الأساسية بفضل التوترات الجيوسياسية التي تعزز من الطلب عليه.
ومع ذلك، فإن أي ارتفاع إضافي في الدولار أو بيانات اقتصادية أميركية أقوى قد يؤثر سلبًا على الذهب، مما يجعل المستثمرين يراقبون بحذر أي تحرك في السوق. ومن وجهة نظري، التحركات التالية للذهب ستعتمد إلى حد كبير على مسار الدولار والسياسة النقدية الأميركية، إذ من الممكن أن نشهد تحولات حادة في الأسعار إذا ظهرت بيانات اقتصادية مخالفة للتوقعات أو حدث تصعيد أكبر في الشرق الأوسط.
اقرأ: الذهب إلى أعلى مستوياته هذا الأسبوع
وبالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية، يلعب بنك الاحتياطي الفيدرالي دورًا حاسمًا في تحديد مستقبل أسعار الذهب. فالتصريحات الأخيرة لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أظهرت ترددًا في التوجه نحو تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة، مما يزيد من صعوبة توقع تحركات الذهب المستقبلية.
وتصريحات باول تفيد بأن هناك احتمالية لخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس مرتين خلال هذا العام، إذا استمر الأداء الاقتصادي على النحو المتوقع. ورغم ذلك، فإن احتمال حدوث خفض كبير في أسعار الفائدة يبقى قائما، وفقًا لتوقعات السوق، مما يضع الذهب في موقف غير مستقر. وأرى هنا أن التنقل بين التوقعات الاقتصادية واستراتيجية بنك الاحتياطي الفيدرالي سيبقي الذهب عرضة للضغط، حيث أن أي خطوة غير متوقعة من الفيدرالي قد تؤدي إلى تقلبات جديدة في الأسعار.
والآن، لا تزال بيانات الوظائف الشهرية في الولايات المتحدة محور اهتمام المستثمرين، إذ يمكن أن توفر رؤية أوضح عن توجهات السياسة النقدية المقبلة. فتقرير الرواتب غير الزراعية (NFP)، يمكن أن يكون المحرك الرئيسي للسوق في الأسابيع المقبلة.
وإذا جاءت هذه البيانات أقوى من المتوقع، فقد نرى المزيد من الضغوط على سعر الذهب، حيث سيرتفع الدولار الأميركي بشكل أكبر نتيجة توقعات بقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول. ومن وجهة نظري، إن البيانات الاقتصادية الأميركية المتوقعة قد تحدد مسار الذهب في المدى القريب، فارتفاع التوظيف بشكل غير متوقع سيضع الذهب تحت المزيد من الضغط الهبوطي، في حين أن أي ضعف قد يفتح المجال أمام فرصة لتعزيز الذهب لمستويات الدعم الحالية.
اقرأ: أسعار الذهب بلا بوصلة
وفي النهاية، يبقى الذهب محصورًا بين قوى متناقضة تؤثر على مساره. من جهة، تدعم التوترات الجيوسياسية الطلب عليه كملاذ آمن، ومن جهة أخرى، يمارس ارتفاع الدولار ومرونة الاقتصاد الأميركي ضغوطًا هبوطية على السعر. ومع ترقب المستثمرين لبيانات التوظيف المقبلة وتوجهات السياسة النقدية الفيدرالية، يبدو أن الذهب سيظل عرضة للتقلبات العرضية في المدى القريب.
تحليل سوق لليوم عن رانيا جول محلل