منذ سنوات طويلة كتبت أمجّدُ بالكذب الجميل، وما عدت أذكر كيف عالجت الموضوع (عادة لا أذكر ما أكتب)!

ومنذ سنتين كتبت أيضاً في الصفحة الأخيرة من الجرس الأسبوعية أعاتب السيد المسيح على واحدة من وصاياه العشر (لا تكذب).

وحين أنهيت النص سلمته كالعادة لأدارة التحرير كي تُسلمه للمخرج يوم إقفال العدد أي يوم إرسال العدد إلى المطبعة.

ولأنهم في غرفة الكونترول يقرأون صفحتي قبل إرسالها للمطبعة، سارع قسم من فريق التحرير إلى تشكيل جبهة نضال وتصدي ضدي، وقامت قيامتهم يدافعون عن السيد المسيح وعن وصيته (لا تكذب) محاولين إقناعي أن نصي فيه كفر، وراحوا يحذرونني من مواجهة حملة تكفير جَماعية في حال أصريت على نشر الصفحة.

نضال الأحمدية: لا تكذب هل هي من الوصايا العشر؟
نضال الأحمدية: لا تكذب هل هي من الوصايا العشر؟

ولأني أحب رفاقي ورغم أنه كان يوم عمل لا يحتمل تضييع وقت في الحوار، لكني جلست معهم لأكثر من ساعة في غرفة الكونترول حيث نتجمع في اليوم العسير، أحاول إقناعهم بأن السيد المسيح أخطأَ، ورحت أحلل معهم وأعطي أمثلة عن عظمة الكذب الجميل، وعن فخامته وقدرته على إصلاح ذات البين، بين البشر.

لكن صوتهم جميعهم كان عالٍ.. كانوا يجادلون وكنت أحاور.. والفرق كبير!

كانوا مرتعبين من الله وكنت واثقة به مقتنعة أنه يحب تشكيكي وأسئلتي.

كانوا يدافعون عن الله وأنبيائه.. وكنت مصممة على أن الله لم يخلقنا جنوداً لنمجده بالتسليم بل لنمجده بالاجتهاد والبحث والتقدّم في وعينا وإدراكنا..

كنت واثقة بأن السيد المسيح سيبتسم لي حين يقرأ، ولن يرفع سيفاً ويقطع عنقي لأنه صانع فكرة الحرية.. كل الحرية.

لست أحاول في هذا النص أن أصف زملائي بما لا يليق بهم، لأنهم مثلهم مثل كل الناس.. مثلكم.. يخافون ويعتقدون أن الله وأنبياءه أغبياء مثلنا.. ويعتقدون أن الله وأنبياءه لا يقبلون الحوار والسؤال والتشكيك..

حاورتهم حتى تعبت.. وحين شعرت خلال الجلسة الطويلة جداً أن لا حول ولا قوة إلا بالله وبإيماني وبأني غير مقتنعة بالوصية وأنه يجب حذفها من الوصايا العشر، وقفت وكتفت ذراعي وقد انتابني حزن شديد تعودت عليه منذ طفولتي..

وقبل أن أخرج من غرفة الكونترول أشرت برؤوس رموشي أني لن أتراجع، وأن المقالة ستُطبع وتصدر في العدد.. وقبل أن أخرج قلت لسكرتير التحرير: تركت فراغاً أرجو أن تملأه بعد البحث في الـ Google عن رقم وصية (لا تكذب).

بعد ساعات، عدت إلى غرفة الكونترول أسأل الفريق عن سير العمل، وماذا بقيَ لدينا من صفحات كي أشرف عليها، (كنت أمرر نظرات خاطفة على أعضاء جبهة النضال والتصدي، لصالح الرب ضدي أنا الكافرة، وخصوصاً الرفاق المسيحيين لأستطلع مدى الحنق في قلوبهم) وأجابني المعني: مدام لم نرسل (الصفحة الأخيرة) إلى المطبعة بعد.

بغضب هادئ يشبه فحيح الأفعى، معتقدة أنهم يتحدونني ويتطاولون على صلاحياتي، سألت: لماذا؟

ولم أسمع إجابة، ساد صمتٌ لم آلفه في الغرفة حيث يجتمع المحررون ورؤساء الأقسام في يوم إقفال العدد من كل أسبوع.. ثم خرج صوتٌ نسائي يقول وكأنه يحكي من تحت اللحافوكان صوت ماغي نانيجيان.

– مدام لم نجد رقم الوصية.

مررت بناظري على الجميع في حالة من التعجب والإستفهام معاً.. لتقول لي (ماغي نينيجيان) وهي الأكثر شغباً في المكتب والأقل تعصباً وعلى وجهها ارتسمت علاماتٌ غريبة لم أرها من قبل.. قالت بيديها أكثر من لسانها، تؤشر يميناً ويساراً: “ما في لا تكذب”.

سألتها ماذا تقصدين (ما في لا تكذب): وكان الجميع أداروا رؤوسهم كل بإتجاه كمبيوتره مدعياً الإنهمالك في العمل وقالت ماغي بصوت أوضح: “يعني ما في بالانجيل وصية (لا تكذب) ضمن الوصايا العشر!

في اللحظة تلك لم أفكر بما قالته ماغي لأني خفت، كان عليّ أن أستبق الوقت لأكتب مقالة جديدة ذلك أن كل المقالة أصبحت صالحة فقط لسلة المهملات. والمطبعة لا تنتظر.

غضبت وخرجت من الغرفة أبحث عن حل، خصوصاً وأن مثل هاته المقالات تكلفني مزاجاً خاصاً ومناخاً نفسياً أخترعه.. يعني كذب كثير من أجل خلق مناخ نفسي لصناعة نص يحترم ويخدم الحقيقة التي أحاول إدراكها.

عدت بعد دقائق وكتبت أسطراً قليلة في ختام المقالة أشرح فيها ما حصل معنا وهكذا أنقذت صفحتي وشعرت بالرضى، ورحت أسرع باتجاه صفحات أخرى أشرف عليها قبل بدء صراخ العاملين في المطبعة. حين أنهيت العدد وفكرت.. وحتى اللحظة أفكر..

كيف لم يعتذر مني أحد من الزملاء على تجريحهم بي، وتهديدهم غير المباشر لي، وقد اكتشفوا أننا جميعنا نصنع أناجيل ونحفظها ونرددها وندافع عنها ونقدسها ونتقاتل من أجلها وهي غير موجودة إلا في خيالاتنا؟

نحن لا ندافع وحسب عن الله المصنوع من خيالات وأحاديث الناس والدعايات الشعبية.. نحن أيضاً نخجل من رفع الصوت والإعلان عن أننا ضحايا الإعلان الشعبي الجاهل.. ونخاف من مراجعة الله وكأنه غول أو ديكتاتور أو دبابة أو صاروخ صهيوني..

نحن لا نعرف أن الله حاكانا بلسان لأننا أهل لسان، وخاطبنا بفكر لأننا أهل فكر، وأنه علينا أن نؤمن بالله من خلال ألسنتنا وعقولنا وليس بعواطفنا المتطرفة الجامدة مثل الجليد البشع.

العربي متطرف، وقد لعن نفسه منذ عرف الله، فهو إما ماركسي متطرف وإما متدين متطرف وأهبل.

ولا وجود لمؤمن إلا وكان مصيره الجلد (الفرق كبير بين مؤمن ومتدين) بينما الغربي لا نسمعه يذكر الله ولا يمجد أنبياءه ولا يطرح السلام الكذاب على سلالات بني الرب ولا يسخر الاعلام للإعلان عن الدين والآلهة!

حين تزور بلاد الله ستعرف أنهم لا يكذبون إلا الكذب الجميل، ولا يغشّون ولا يخادعون ولا يكشرون ولا يكذبون ولا يتملقون.

الأجانب ينفذون أعلى نسبة ممكنة من وصايا الله دون أن يتباهوا بالإعلان عنها فلا يلتحون ولا يتعممون ولا تصرخ جوامعهم ولا ترن أجراسهم.

يعيش المجتمع الغربي تحت سقف القانون الدولي المستوحى من قانون الله لكن بدون فولكلور، ويعيش العرب بكل طوائفهم وهم يخبرون الله 24 على 24 أنهم يعبدونه، ولا يعرفون أن العبادة ليست إعلاناً واستعراضاًَ بل سلوكاً.. يعني.. طريقة عيش.

لهذا نحن خادعنا الله فزعل منا وتركنا بدون سماء، ليصنع رجال الدين سماوات يهلل لها من يركع تحتها.

نضال الأحمدية Nidal Al Ahmadieh

Copy URL to clipboard

شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار