الخوف من تحرير الإبداع مشكلة شرقية بامتياز, تجعل المبدع يتقوقع من الألم فيصمت دون أن يجعل ملكته ملكًا عامًا, ويحقق من خلالها أسطورته الشخصية، التي قد تتحول إلى تاريخ, يخلق هوية لمجتمعاتنا العربية المتعطشة للفنون.
هذه الفنون التي تحولت إلى فنون استهلاكية, لا تعبر عن تفرد وخلق, حطمت الذوق الفني للشعوب العربية, غير القادرة على تحمل المزيد من التدمير, هي بكل الأحوال تعيش حالة الفوضى والجهل والتعصب والعنصرية, والتطرف الذكوري الذي جعل منها تسير على قدم واحدة, فقدت بذلك طبيعتها وفطرتها, حتى أصبح الصراع يصرخ عاليا.. اصمتوا.
كيف نصمت, والفنون مثل الموسيقى والرسم والتمثيل وحتى الرقص لا تشبع الوجدان العربي, ولا تجعله يفكر ويحلم, هو عبارة عن سلاح يقتلنا روحيًا ويجعلنا أكثر سطحية, ويرسم صورة جلية للمجتمعات الأخرى عن واقع الحال المخجل.
ماذا يسمع المستمع العربي الأن؟ هذا المستمع الذي يقدس فنانيه.
ماذا يسمع منهم سوى الهرطقات والموسيقى المسروقة من الغرب والأتراك, وإن رضينا بواقع الموسيقى كيف سنرضى عن واقع الشعر الغنائي, الذي أصبح مستهلكًا بطريقة ساذجة, ويعبر عن مضمون شوارعي رخيص, يتأثر به الكبير والصغير, ويتحول الفانز له إلى جيش إلكتروني يؤلهه، ويحارب من أجله حتى الموت دون إدراك لما يخلق بداخله من ضجيج فوق ضجيج, واختلال فوق الهزيمة والخروج عن خط الإتزان.
عندما نقول التاريخ الفني لبلاد الشام, لا نذكر سوى الرحابنة, الذين خلقوا لبنان الحضارة. لبنان لا يشبه لبنان ما قبل الرحابنة, هؤلاء العباقرة الخلاقين استطاعوا أن يحصنوا لبنان, وكأنهم يعلمون أن الزمن بعدهم سينحدر ويفنى فيه الحقيقي, خلقوا الصورة الفنية والإنسانية والثقافية لهذا البلد الجميل لسنين لا تنتهي.
عندما نقول لبنان الآن نقول فيروز, نشعر وكأننا في الفردوس, رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد, صوت فيروز يجعلنا لا نرى سوى الجمال والمحبة وحلم الوطن الذي حلموا فيه وتخيلوه, بتلك الموسيقا والشعر الغنائي والقصائد والمسرحيات التي تخطت حدود العالم العربي وأصبحت مدرسة عالمية تدرس في كل الأرجاء.
الأخوين رحباني قالوا نحن خُلقنا من الألم، استطاعوا أن يختبروا كل الحالات الإنسانية حتى وصلوا إلى الفهم المقدس, الذي انذر بالخلق, وترجموه بفن لامس كل القلوب,ودغدغ مشاعر المثقف والأمي, لذاك العصر وكل العصور, إنها فلسفة إنسانية حقيقية.
عندما تسمع أغنية فيروز تع ولا تجي، تتأمل مرارًا بعد أن ترقص فرحًا، تحاول البحث عن معانٍ شتى فتشعر وكأنك ملكت حكمة الحياة, كل ذلك بشعر بسيط قابل للتأويل يعطيك درسًا عنوانه الإتزان الوليد من الصراع التي تشكله الثنائية بداخل كل أحد فينا,لنتجاوزها بنشوة الحرية والإنسياب إلى مالا نهاية فينا,تجعلك تقول في داخلك أنا معكم ولست منكم, أنا لكم بكلي ولست ملك أحد, أنا الكل ,أنا المحبة… أنا جبران.
موسيقى وفن الرحابنة وكل العباقرة في ذاك العصر, لم تكن وليدة الصدفة, الصدفة قانون الأغبياء هكذا قال ميخائيل نعيمة اللبناني, الذي خلق فلسفة عظيمة تاجها مرداد هذا الكتاب الذي نشر مع الكثير من الكتب في زمن الخلق اللبناني, الذي كان فيه لبنان منارة للفكر والثقافة وملجأً للمفكرين والمبدعين ودعوة للحياة والحرية.
هكذا فكر ينتج عنه فنون وموسيقى مبدعة تمتلك هوية وفلسفة لاتموت.
الأن نحن في عصر الواوا,تزامنا مع الإنحطاط الأخلاقي والحالة الإقتصادية والسياسية الحارقة التي تمر فيها البلاد,كثر من نادوا بالتحرر من هذا الحال بالفن,والشعب صرخ معهم ,ولكن الإعلام أسكتهم,ليبقى بأمان مادي بعصر المادية والرخص,وبالعكس كان السبب المباشر ببروز هذه الموجة باسم الفن ليكمل ع الشعب الغائب الحاضر,المسير بالدولار والمستعبد من الزعامات السياسية, وهذا الشعب نفسه الذي يسمع فيروز كل صباح ويقول فنجان القهوة لا يكتمل دون صوت الرب .
السؤالك متى سندرك أننا لا نسمع وإن سمعنا لا نفهم وأن فهمنا لا نبوح؟
متى سنحرر إبداعنا ونكسر شباك الخوف ونتمرد على أنفسنا قبل التمرد على الأنظمة لننطق الحرية ونفهمها أولا؟
متى ستهدئ الفوضى داخل رؤوسنا لننظر إلى أبعد مدى؟
هل سيأتي اليوم الذي نخلق فيه مدرسة فنية تختلف عن المدرسة الرحبانية أم أن الرحابنة سيبقوا لعنة تذكرنا بجهلنا وزمننا الذي عفى عليه الزمن ؟
أنا متفائل رغم الألم,لأن الألم هذا هو سيكون المحرض الأساسي لتحويل المعاناة تلك إلى تنوير,باللحظة التي نفهم فيها ما جرى ولما جرى,هنا فقط نستطيع أن نكون,وعندما نكون ندرك معنى الحب,وعندما نحب نمتلك الحرية, وحتما سنصرخ إبداع, وتلك ستكون الثورة الحقيقية.
الفن اللبناني محصن, ومازال بين ذراعي كتاب سعيد عقل, وشعر جبران في الأشرفية, وصوت وديع الصافي ونصري شمس الدين صداهما في أعلى الجبل, لهذا لبنان معافى, والتاريخ يشهد.
كنان شقير – سوريا