الأستاذة كارين رزق الله، لا تكتب لتظهر نفسها كبطلة مطلقة على الشاشة، ولا تستخدم الآخرين ليبسطوا لها السجادة الحمراء فتدعس عليها وتستغلهم لكي تتفوق عليهم، كلنا لاحظنا ذلك بعد عرض خمس مسلسلات رمضانية من تأليفها وبطولتها، شكّلت نقطة إنطلاق لكثيرين وكثيرات من الممثلين المبتدئين، فيما تمكن آخرون من زيادة حجم نجوميتهم وشهرتهم عبرها، ومسلسل (إنتي مين) والذي يعرض حاليًا، ليس إستثناءً.
تؤمن بالقضايا التي تنقلها عبر نصوصها، وبواقعية حوارها الذي يمس الناس ويجعلهم للحظات يتناسون إطار الشاشة ليشعروا إنهم يعيشون مع الشخصيات، وبالرسائل الصارخة والهادفة التي تقدمها بشكل ساخر عن أزمات لبنان الإقتصادية، وحال مجتمعاته المتناقضة، وسيطرة الطبقة السياسية الإقطاعية ونهبها لثرواتنا منذ عقود، وغيرها من المواضيع القيمة التي لم يعد التجاريون والمقاولون يهتمون بها بالدراما.
هذه السنة كتبت كارين دورًا مركبًا وصعبًا للممثل القدير نيقولا دانيال، والذي يلعب دور والدها بالمسلسل، شخص يعاني من إضطرابات نفسية تفقده إتزانه ليُتهم بالجنون من أهالي الحي، يعيش بأوهامه ويتصور وجودًا لأشخاص غير موجودين، يحمل معه ماضيًا أليمًا عاشه بتفاصيله المرعبة أيام الحرب الأهلية اللبنانية، وقتما أعتُقل وعذب جسديًا ونفسيًا، فهرمت روحه مبكرًا، ولم يتبقَ له سوى ابنته (جهاد)، التي نقل إليها تلك الإضطرابات منذ طفولتها، وتحملت نتائج تدهور حالته النفسية، لتبتعد عن الناس وتحرم من لذة الحياة، فتسجن حزينةً ومنهارةً ومتشائمةً بمساحةٍ ضيقة داخل منزلها معه.
القصة التراجيدية الحزينة تتخللها بعض المواقف الكوميدية المضحكة، لا تغرقنا كارين بالبكاء ولا تقدم نصًا مبتذلًا فيه من السخافة أكثر من الكوميديا، قلمها يحمل ميزانًا عادلًا بين الضحكة والدمعة، بين النكتة والعبارة المؤلمة، تقدم واقعًا نعيشه يمتزج به الحزن مع السعادة، ولا يغلب أحدهما الآخر.
نيقولا يلعب دوره بمهارة، ويغوص بتفاصيل شخصيته، يظهر أمام الكاميرا بلباس عادي وبشعر غير مصفف وبحذاء قديم، لا تهمه المظاهر، فنان محترف ولا يتسلى كغيره، يركض ويصرخ ويتلاعب بنبرة صوته حسب الموقف، يبكي ويحرك يديه كالمجنون، يسير بكتفٍ غير مستقيم ليوحي عدم ثقته بأحد، تدمع عيناه ثم يمسحهما بعنفوان رجلٍ يرفض الخضوع رغم كل خساراته بعد رحيل زوجته أو والدة كارين الغامض، وتخلي عائلته والمقربين عنه، يبكينا ويقنعنا ويجعلنا نفتخر بقامة مثله بمهنة التمثيل في لبنان، كما يفتخرون بجمال سليمان وبسام كوسا في سوريا، ويحيى الفخراني وأشرف زكي في مصر، هنا يوجد مبدعون أيضًا يحلقون إن توفرت لهم نصوص محترمة تعطيهم مساحة لتفريغ طاقاتهم التمثيلية، كالتي تكتبها الأستاذة كارين.
الكاتبة التي يتهموننا بالتحيز لها، أعطته وأعطت أنجو ريحان دورين ينالان عبرهما إعجاب المشاهدين، فيما يطل عمار شلق بواحدٍ من أجمل أدواره على الإطلاق، ودورها الذي كتبته لنفسها يتساوى ويقل حتى بأهميته وتركيبته ربما عن أدوارهم، فهل يشك أحد ما بعد بحرفيتها، وأنها أستاذة لم تتاجر يومًا بمهنتها كغيرها، وأنها من القليلات اللواتي تقدّمن حتى اللحظة فنًا محترمًا وقيّمًا؟!
عبدالله بعلبكي – بيروت