طوال الأيّام الماضية، انشغلت عشرات مكاتب المحاماة المعروفة في العاصمة الفرنسيّة باريس بتحضير عروض خدمات” لمصلحة مصرفيين ومسؤولين ماليين لبنانيين كبار، وبناءً لطلب هؤلاء، ورغم استفادة الغالبيّة الساحقة من هؤلاء المصرفيين والمسؤولين من خدمات مكاتب محاماة دوليّة مرموقة، إلا أن ثمّة ما فرض عليهم جميعًا اليوم الاستعانة بخدمات المكاتب الفرنسيّة، واستدراج عروضها.
التفاوض لتفادي “سيناريو مروان خير الدين” هدف المصرفيين والمسؤولين من هذه العروض، ليس سوى اختيار المكاتب الأفضل، للحصول على استشارات قانونيّة خلال المفاوضات مع المحققين الفرنسيين، بما يخص ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وشبهات التواطؤ لتسهيل الاختلاسات التي تدور حول المصارف اللبنانيّة.
النقطة التي سيدور حولها التفاوض، استطلاع مرونة القضاء الفرنسي، لجهة إمكانيّة عقد صفقات قضائيّة يكشف بموجبها اللبنانيون معطيات محددة لمصلحة فريق التحقيق، مقابل تجنيبهم سيناريوهات الاحتجاز أو منع السفر خلال مرحلة التحقيق، كما حصل مع مروان خير الدين.
أمّا في مراحل المحاكمات المتقدمة، فسيسعى كل مصرفي أو مسؤول اليوم لتقديم ما يكفي من معلومات وداتا تثبت عدم تورّطه في تسهيل متعمّد لعمليّات الاختلاس التي قام بها حاكم مصرف لبنان والحلقة المحيطة.
أي بصورة أوضح، سيسعى هؤلاء إلى إثبات “حسن نيّتهم” خلال قيامهم بعملهم المصرفي أو المالي، وإن تمكّن الحاكم وشركائه من استخدام مصارفهم أو مواقعهم لتبييض الأموال المختلسة من دون علمهم.
إذا نجح هؤلاء بهذه المهمّة الصعبة، سيكون بإمكانهم تقليص العقوبات التي ستُفرض عليهم، إلى حد امكانيّة اقتصارها على الغرامات الماليّة، كما يطمح بعضهم.
مرّة جديدة: سيكون على كل مصرفي إبداء أقصى درجات التعاون مع المحققين في الوقت الراهن، للوصول إلى هذه النتيجة.
ببساطة، شبح “سيناريو مروان خير الدين” بات يخيّم على الجميع، وعدم مثول أي من هؤلاء أمام الاستجوابات في باريس، في حال تم استدعائه، سيحوّله إلى مطلوب دولي.
الحضور غير المحسوب، قد ينتهي بمنع سفر أو حتّى احتجاز.
الحل الأفضل، البحث عن مخرج مشرّف والتعاون مع التحقيق قدر الإمكان، وإن عنى ذلك “بيع” رياض سلامة نفسه.
مصادر قانونيّة متابعة للملف تؤكّد أن إمكانيّة نجاح كل من هؤلاء في مهمّته تتفاوت إلى حد بعيد.
بعض المصارف اقتصر دورها على تمرير تحويلات رجا سلامة، مع إهمال موجب التأكّد من مصادر الأموال.
أمّا البعض الآخر، كبنك الموارد مثلًا وعدّة مصارف أخرى، فربطتهم مصالح وصفقات متشابكة مع رياض سلامة، ما يدل أنّ تمرير التحويلات كان جزءًا من صرف النفوذ الذي مارسه الحاكم على مدى السنوات الماضية.
كما كان من الواضح أن بعض المسؤولين في مصرف لبنان تورّطوا فعليًا في تنظيم عمليّة الاختلاس، وتنفيذ التحويلات من حسابات مصرف لبنان إلى الخارج.
باختصار، لن تقتصر لائحة الملاحقين على الحاكم وشقيقه وإبنه ومعاونته ماريان الحويّك وصديقته آنا كوزاكوفا، بل ستشمل حكمًا عشرات المصرفيين والمسؤولين في مصرف لبنان. إلا أنّ أقصى ما يطمح إليه كل من هؤلاء، هو الخروج من دائرة الاحتجاز خلال التحقيق، ومن ثم تفادي أحكام السجن لاحقًا، وإن تحمّلوا أحكامًا تقضي بدفع غرامات مقابل إهمالهم واجباتهم الوظيفيّة.
وهنا بالذات، تصبح التضحية بالعلاقة بالحاكم مسألة مباحة.
مروان خير الدين يفاوض على مصيره مروان خير الدين بالتحديد، أحد الذين يفاوضون اليوم لحماية رأسهم، ولو على حساب تقديم معلومات إضافيّة تدين حاكم مصرف لبنان.
المصادر القانونيّة في باريس تدل أنّ خير الدين يراجع اليوم خياراته، بالتشاور مع المحققين في فرنسا، بهدف إبداء ما يكفي من تعاون مع المحققين، والإدلاء بكل ما يملكه من معلومات في قضية حاكم مصرف لبنان، مقابل طلب إلغاء قرار منع السفر الصادر بحقّه بوصفه متعاون في الملف.
كما يطمح خير الدين إلى مقايضة بعض المعلومات التي يملكها، والتي تكشف حلقة تبييض الأموال التي قام بها رجا ورياض سلامة، بتخفيف الأحكام التي ستصدر بحقّه لاحقًا. أمّا عدم التعاون، فيمكن أن تكون كلفته أحكام بالسجن تصل إلى حدود العشر سنوات.
خلال الأيّام الماضية، انكشفت المزيد من تفاصيل التهم الموجّهة إلى خير الدين، ومنها تزويد قيود عمليّات مصرفه، بهدف إخفاء مصادر الأموال التي دخلت حساب رجا سلامة في بنك الموارد، وإخفاء وجهتها لاحقًا.
حسب التحقيقات، تبيّن أن كشوفات الحساب الخاصّة بحساب رجا سلامة في بنك الموارد احتوت على قيود جرت خلال أيّام العطلة الرسميّة، رغم أن نظام المعلوماتيّة الخاص بالمصرف كان مقفلًا بالكامل خلال هذه الأيّام، ما يؤكّد تورّط المصرف بتزوير كشوفات الحساب الخاصّة برجا سلامة، واختلاقه قيوداً لم تجر فعليًا مقابل إخفاء قيود أخرى.
مروان خيرالدين عمل خلال الفترة الماضية على انتداب موظّفين من بنك الموارد، لتعيينهم كمدراء وهميين لشركات رياض سلامة المسجّلة في بعض الدول الأوروبيّة، ما ورّط هؤلاء الموظفين في ملاحقات قضائيّة كانوا بغنى عنها، وفي ملفّات لا يعلمون عنها شيئًا.
هذا التواطؤ تحديدًا سهّل على المحققين مهمّة توجيه تهمة تسهيل عمليّات الاختلاس من مصرف لبنان وتبييض الأموال، لمروان خير الدين.
خير الدين اعترف أمام المحققين بمسألة انتداب الموظّفين هذه، واضعًا إياها في إطار “الخدمة” التي يقدّمها المصرف لعملائه المميّزين.
الإنتربول لرياض سلامة؟ في الوقت الراهن، تتركّز الأنظار على جلسة الاستجواب الباريسيّة في 16 أيّار، التي دُعي إليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
سلامة يخشى أن يُمنع من العودة إلى بيروت، كما جرى مع خير الدين، أو حتّى احتجازه، في حال حضوره ذلك الاستجواب.
القاضية غادة عون، سحبت من سلامة إحدى الذرائع التي كان يمكن أن يستخدمها لعدم حضور الاستجواب الباريسي، عبر إلغاء قرار منع السفر الذي أصدرته بحقّه، والذي سقط أساسًا بمرور الزمن منذ أشهر.
لم يعد لسلامة أي حجّة لعدم حضور الاستجواب في باريس بعد شهر، إلّا إذا تواطأ القضاء اللبناني معه وحدّد له جلسة استجواب في لبنان في نفس اليوم، وهذا مستبعد.
توحي مصادر فريق الدفاع عن سلامة أنّه يتجه لعدم حضور الاستجواب، متذرّعة بوجود مخالفات قانونيّة في الإجراءات القضائيّة المعتمدة في فرنسا.
في هذه الحالة، سيكون من المتوقّع أن يصدر القضاء الفرنسي نشرة حمراء عبر الإنتربول، بهدف المطالبة بتوقيف رياض سلامة وإرساله إلى أوروبا.
هنا، لا يمتثل لبنان لهذا الطلب، إذ لا يفرض القانون اللبناني على القضاء المحلّي تسليم مواطن لبناني لقضاء أجنبي، بناءً على مذكرة من هذا النوع.
ما حصل مثلًا في قضيّة كارلوس غصن، الذي يتمتّع بحريّته في لبنان رغم صدور نشرة حمراء صادرة عن الإنتربول بحقّه، وبناء على طلب القضاء الفرنسي.
لكن في النتيجة، وبحسب هذا السيناريو، سيكون رياض سلامة بعد 16 أيًار مطلوباً، ملاحقاَ دوليًا من قبل الإنتربول، وإن ظلّ طليق اليدين في العاصمة اللبنانيّة بيروت.