لقد اجترحت المرأة الشاعرة مرارة همومها في شعرها وفي كتابتها الأدبية عموما، بدءا من القرن العشرين على الأقل عندما أتيح لها أن تبوح بخوالج نفسها غير آبهةبوطأة التمييز الذي كان يعتصرها وهي ترزح تحت نيرالتمييز الذي فرضه مجتمع ذكوري.

في هذه الورقة سنتطرق إلى تجربة الشاعرة السورية غادة السمان الروائية والقاصة والصحفية والشاعرة المفلقة، والتي باحت في قصائدها منذ السبعينيات بكثير من الثيمات الشعرية التي تجعل من الشعر فسحة للدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، بشكل خاص، قبل أن تنتشر تجربة الأدب النسوي والحركات النسائية الأدبية التي انتقلت إلى النقد أيضا تحت مسمى النقد النسوي، ولهذا اخترنا الاشتغال على صورة المرأة في شعرها، ومفهوم الالتزام الشعري عند هذه الشاعرة المعاصرة التي قال عنها غسان كنفاني، في إحدى رسائله إليها سنة 1968، بأنها “مثل العصافير، ستضرب في فراغ السماء وجاذبية المدى الذي لا يحده حد” .

ولدت غادة السمان بدمشق عام 1942 في فترة كانت فيها الحرب العالمية الثانية في أوج اشتعالها، وفي عقدقال فيه الشعر العربي الحديث كلمته مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، فتشربت الشعر من ينبوع الحداثة ومن عيون النضال والألم، ومن ثمة كان شعر غادة شعرا حداثيا طامحا إلى تكسير قيود التعبير كما كسر قيود القافية والوزن، واتخذت من قصائدها وسيلة دفاع عن حرية المرأة وحقوقها، كما دافعت عن قيمة المساواة وعن الجمال والحياة، وقد تمثل ذلك في عدد من الأعمال الشعرية مثل ديوان حب 1973، وأشهد عكس الريح1987، وعاشقة في محبرة 1995.

1- تيمة المساواة: أيها الرجل “ضيعتني لأنك أردت امتلاكي”

هكذا كان مطلع قصيدة غادة المعنونة ب”أميرة في قصرك الثلجي” حيث دافعت عن قيمة المساواة مع الرجل في الحقوق وفي الواجبات وفي تحمل النهضة العربية التي لن تقوم بدون الطرفين معا، تقول:

أين أنت أيها الأحمق الغالي

ضيعتني لأنك أردت امتلاكي

ضيعت قدرتنا المتناغمة على الطيران معا

وعلى الإقلاع في الغواصة الصفراء..

وليست هذه الغواصة الصفراء في واقع الأمر سوى استعارة رامزة للقارة الأسيوية التي أقلعت مع دول رائدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، هذه الغواصة التي لن تقلع في دولنا العربية بدون المرأة، تقولالشاعرة مخاطبة الرجل:

أين أنت

ولماذا جعلت من نفسك خصما لحريتي

واضطررتني لاجتزازك من تربة عمري؟

هذا التأنيب الذي هو الدفاع الصامت عن كل امرأة عربية مقموعة، لا يمنع الشاعرة وهذه المرأة العربية من الحب والعطاء والرغبة في المصالحة العودة إلى المصالحة طاولة المفاوضات، رغم أن هذا الظلم استطال زمانه:

لقد تدفق الزمن كالنهر

وضيعت طريق العودة إليك

ولكنني ما زلت أحبك بصدق

وما زلت أرفضك بصدق

2- تيمة الحرية:

الحرية عند غادة السمان تتجاوز المعنى السطحي كما صاغته المنظمات العالمية التي ترى في ذلك تنصلا من الالتزام، بل الحرية عند غادة تعتبر جزءا من الرؤيا الأساسية التي تبنيها في شعرها، والمتمثلة في الدفاع عن الكرامة الإنسانية، وعن الإنسان العربي، ففي قصيدتها “أربعاء الجمر تحت الرماد” تعبر الشاعرة عن المفارقة بين قسوة الوطن والحرية، وتتمنى أن يجتمع الوطن والحرية، تقول:

حين عُدتُ إلى وطني بعد ألف عام من “النورسة” ، لم

يعرفني أحد. ومثل شبح يرفرف على تخوم الصمت، كانت

أيديهم تخترقني على حافات المصافحة والعناق المستحيل (…)

ومازلنا ننتحب لأننا نريد الحرية والوطن معاً… ولكن

كيف؟

3- تيمة الحب:

المعروف عند غادة السمان اتخاذها من تيمة الحب موضوعة كبرى تزخر بها معظم قصائدها، حتى أن أغلب النقاد يرون أنها “شاعرة العاطفة والجسد”، حيث إن موضوعة الحب تحضر في شعر غادة السمان بشكل ملفت للنظر، وهي تجعل من هذه التيمة نبراسا لإضاءة صور أخرى وتتخذ من هذا الحب رمزية تعبير صادق عن الأمل في الحياة ومن ثم تتمظهر رؤيا الشاعرة التي تتقاسمها نبرة أمل وألم وتفاؤل ويأس، من أجل البوح بالرغبة في التحول إلى ما يشبه الحياة المسالمة، وهي تستحضر دائما الرجل الذي تتخذ منه موقفا بين بين، حين تقول في قصيدة “لقد اخترقتني كالصاعقة”:

لا تصدق حين يقولون لك

أنك عمري

فقاعة صابون عابرة…

لقد اخترقتني كصاعقة

وشطرتني نصفين

نصف يحبك ونصف يتعذب

لجل النصف الذي يحبك

وفي قصيدتها “حب نرجسي” ترد على هذه الأنانية التي لا تخفي حبها وتعلقها:

يناديني الفجر يا نرجس

أقرب وجهي من ماء البحيرة الصافي

وأحدق جيدا فأرى وجهك

4- مفهوم الالتزام في شعر السمان:

لا يمكن الحديث عن غادة السمان في كتابتهاالشعرية دون الحديث عن الوطن الذي تربطها به علاقة أمومة رمزية تجعلها تحبه بملء جوارحها، ولعل تجربة الشعر الوطني عند غادة يمثل قمة الالتزام في قصيدتها، حيث تعبر عن معاناة الإنسان وتشرذمه في الوطن،بمفهوم الانتماء العام إلى الوطن العربي الذي يحضر كرمزية للانتماء والهوية، وتحضر في هذا الالتزام قضية الهوية وقضية العنف كموضوعتين جزئيتين هيمنتا على بعض قصائدها، فهي ترفض العنف الوحشي الذي هدم المدينة العربية؛ تقول في قصيدتها “أشهد على جنون مدينة”:

شاهدت مسلحا مقنعا

يمزق زينات العيد

ويلصق أوراق النعوات

على الأبواب كلها

ويختم عيون الأطفال بالشمع الأسود

ويأمرنا بأن نقبل سلاحه (…)

أي جنون يجتاح هذه المدينة؟

وتبدو نزعة الارتباط بالهوية وبالوطن العربي الكبير حاضرة بشكل جلي في شعر السمان، والمدينة فيها تمتد إلى كل المدن العربية والتي تابعت معاناتها وويلاتها في زمن السلم والحرب، فهي تعبر عن استيائها من وحشية الدمار الذي لحق بيروت في قصيدتها”أشهد أن زمنك سيأتي” وهي قصيدة نظمتها في الثمانينيات، حين تقول:

في بيروت المكفنة بفلاشات عدسات التصوير

و روائح إحراق النفايات و الجثث

و ظلال الحرائق على أعمدة البكاء

كمدينة ضربها الطاعون

طالعة من أساطير اللعنة

وأكمام العصور المنقرضة …

وتقول في القصيدة ذاتها:

هذا ليس زمنك

يها المرهف شفافية و عذوبة

هذا زمن إعدام العصافير

و الأطفال و الفراشات و النجوم …

بل تبدو نزعة الالتزام في شعر غادة مسافرة عبر كل القارات، مصورة معاناة الإنسان، بشكل عام، كما في قصيدتها “ذاكرة وطن”:

وحيدة آخر الليل مع فان غوخ والعازف العجوز

ها هو شوبان ينتحب على كتفي،

وعلى أصابع البيانو،

بدموع من طيب وطنه بولونيا

وفان غوخ ينتحب هولندا بدموع من إصباغ اللوحات..

وها أنا أنتحب على ركبة السطر

بدموع من طين عدة أوطان مرة واحدة…

فلسطين ولبنان

هكذا يبدو أن غادة السمان لم تكن شاعرة الحب والعاطفة فقط كما قد يبدو للوهلة الأولى في قصائدها، ولا هي شاعرة المرأة بالمفهوم السطحي، إنما تتجاوز كل ذلك إلى الإنسان، ومن ثم فهي شاعرة ملتزمة بالقضايا الإنسانية وبقدر ما تهتم بالمرأة التي تتمنى أن تجد في القريب ضالتها المتمثلة في المساواة والحرية والحياة العادلة بقدر ما تهتم بكل ما يحير الإنسان في هذا العالم.

د. سعيد سهمي

Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار