أدرتُ مفتاح سيارتي، ثبتتُ حزام الأمان، وانطلقتُ صعوداً نحو الجبل، أبحثُ عن فسحة أعلى باتجاه الله، أبحث عن حبٍّ، عن مغامرة شُجاعة.
لكلّ حبة رملٍ في الأرض وجهٌ ووُجهة. وهكذا هي وجوهنا.
الطرقات ممتلئة برائحة الفقر والغضب، وهذان حين يجتمعان، فعلينا أن نتوقّع كارثة، لا حب تحت غيم الكوارث الذي لا يُمطر إلا الحقد.
لا أريدُ التأمل في كارثة، أسدّ أنفي وأتابع باتجاه رجلٍ وقهوة.
كل مرّة أنهى اتصاله معي كان يدعوني للقاءٍ ويقول: أتمنى أن نلتقي، ولو لمرة على فنجان قهوة، هل هذا ممكن؟
منذ زمن طويل، أشرب قهوتي وحيدة، لا أقلِّب الفنجان، ولا أتفحّص رسوماته، التي قد تؤشّر إلى قلبٍ يتقاطع مع قلب رجل.
كدت أقترب من المكان، حيث الموعد مع مجهول، لا أعرف عنه شيئاً إلا اسمه، وبعض معتقداته، لكني أحفظ، رنّة ضحكته، وحنان صوته الأجشّ كثيراً.
انتحيتُ بسيارتي جانب الطريق، نظرتُ إلى المرآة أتفحّص وجهي، لحظتُ احمراراً كثيراً، منذ وجنتيّ وحتى أخمص عنقي.
يبدو أنّي خائفة! قلبي يخفق كما لو أنّي أهرب فارّة من وحش.
هل أخاف، لأنه فعلٌ «يا عيب الشوم» ورثته من إيام الضيعة؟
أو ربما أخاف أن أرى رجلاً قصيراً وبطنه منفوخة، ورأسه طويلاً أو مسطّحاً، ونظارتيه مع زجاجتَين سميكتين وأخافُ أن يكون أنفُه أفطسَ وشفتاه رقيقتين سامّتين؟
لا تزال عيناي عالقتين في المرآة، لكنّي لم أعد أرى وجهي.. يبدو أني ألهثُ سرّاً وها أنفاسي تغبّش مرآتي.. ويتلاشى وجهي.
أدوس على (دواسة البنزين) بهدوء، أرفع صوت الراديو وأستمعُ إلى فيروز. أصل المكان، أترجّل من السيارة، 14من الرجال أو أكثر يهجمون ليستلموا سيارتي كي يركنوها!
لم كل هذه الجماهير؟
هل كلّفهم العاشق أن يحملوا سيارتي احتفاءً بقبولي دعوته بعد طول أنين وحنين؟
هل هو سخيف كي يفتعل مثل هذا الإستعراض؟
أم أنهم من الفقراء الباحثين عن «بخشيش»؟
استرقتُ تقاسيم من وجوههم، كنت كلما نقلتُ عينيّ باتجاههم، أخفض الواحد فيهم عينيه وطأطأ رأسه. إذاً هم من خدامِهِ، لا شحاذين؟
هذه حالة أكرهها في أفعال الرجال الذين يعدّون كل أدوات النصب للقاء أول.
مشيتُ باتجاه الباب وكان الغضب السري قد طيّر الإحمرار عن وجهي.
تجمّدتُ في مكاني، نسيتُ حقيبة يدي، التفتتُ ملوحةً للـ 14، لكن نصفهم كانوا خلفي يحملون حقيبتي وكأنها كتاب مقدس. أخذتها منهم بحركة وكأنّي أنهرهم، وكأنّي أقول لهم: مهما جعتم، فلا تحملوا حقائب النساء المدلَّلات.
وكأني أصرخ: لا يُصيِّروكم نعالاً، ورقاباً مرخية.
ردّ بـ Bonsoir وتابع: أنتِ أجمل مما تبدين عليه في الصورة. أنتِ أكثرَ لطفاً، وأرقّ و..
كيف عرف أنّي أرق وألطف؟ هذه رشوة جديدة، ما يعني أنه يتوسل.
كم أكره مفردات الرشوة!
لكن قد يكون صادقاً، اعتدتُ على سماع نفس العبارة من كل الغرباء الذين ألتقيهم لأول مرة.
ما عدتُ أسمع. كنتُ أنتبه لشفاهه تتحرَّك. وقعتُ في عينيه الشهيتين، وابتسامته الأكثر حناناً من صوته، ثم انتبهت أننا نمشي، وقد مالت شفتاه إلى ابتسامة هادئة، ثم أشار باتجاه زاوية. المكان يعجّ بالناس. مشيت أنظر إلى الأرض، ورأيت رؤوساً تستدير نحوي، وهمسات يمر فيها اسمي، ولم أخَفْ إلا قليلاً.
سمعته يقول خلفي وهو يمسك كرسياً لأجلس:
– أريد أن تكوني لي وحدي، وليس لكل هذه الجماهير..( ثم ابتسم وجلس قبالتي وتابع):
– أعرض عليكِ ما تشائين، أعشقكِ منذ زمن بعيد وكنت أخافُك، ضيّعتُ عمراً، لكنّي وجدتكِ الآن.. هل تقبلين بي؟
ما أغبى الرجل حين يضعف، ويُقدِّم كل العروضات دفعة واحدة!
رغم كل ذلك.. ما زالت يدي متنملة..
قد أحبه!