أردتُ أن أقيم امتحاناً لنفسي عبر أحد أصدقائي، فسألته:

عدِّد لي أسماء الذين صنعوا معك جميلاً في حياتكَ..

وضعَ الصديق يده تحت ذقنه، وراح يتذكّر طويلاً..

كنت أتأمّله بدقة، ولمحت بعد ما يقارب الدقيقة، علامات امتعاضٍ على وجهه..

أعدتُ عليه السؤال أحدِّد: تذكّرْ من فضلك عشرة أسماء لها فضل عليك، أو من الطيبين الذين تركوا فيكَ أثراً حسنا.

ابتسمَ لي ثم هزّ برأسه موافقاً وعاد يتأمّل متذكّراً.. كنتُ أنتظره لينطق باسم واحدٍ من الذين أحسنوا إليه بمحبتهم، ودّهم أو إخلاصهم.. خصوصًا وإني أعرف عشرات الأسماء، باعتبار أنه صديقي، وأخبارنا مكشوفة لبعضنا، لكن وكما توقعت، سارع إلى ذكر الأسماء البشعة التي عكّرت صفو ماء عمرِهِ!

استمعتُ إليه قليلاً ثم ذكّرته بأنه يجيب على غير سؤالي، ورغم تنبيهي استمرّ يعبِّر عن استيائه من الذين توالوا في حياته يُسيئون إليه، فهذا المنافق، وتلك الخائنة، وذاك سرّاق، ورابع غدّار وخامسة بنت حرام، وسادس حاقد..

أعدتُ أسأل وقلت: ألا تذكرُ أحداً بخيره أو معروفه؟

أجاب بعفوية متناهية مشيراً بيده الغاضبة: لا يخطر ببالي أحداً الآن.

انتهى الإمتحان الذي أجريته لنفسي وليس لصديقي، وذلك كي أذكّر نفسي قبل الآخرين أنّ صنّاع الخير في حياتنا هم الغالبية العظمى وهم البياض الأعظم، وصنّاع الشر هم القلّة العظمى السوداء.

لكن القلّة العظمى تأخذ مجدها على فسحة البياض الأوسع، لأنها تشكّل حضوراً نافراً..

القلّة الذين يؤذوننا نتذكّرهم وهذا ليس خطأً.. لكنه يصبح مصيبةً حينما نتذكّر السوادَ القليل، وننسى الأشراف الذين يملأون الدنيا بلطفهم ونقائهم.. فيُعمي قلوبنا سودٌ قبحٌ لا قيمة لهم، إلا إذا فهمنا أن الحكمة من تواجدهم في حياتنا ليؤكدوا نقاء البياض الذي يحيط بنا ولا نذكره.

نحن لا نتذكّر الطيبين.

بل الشرير لشدة ميلنا إلى الشر.

والشرّ فينا نغذّيه بعاداتٍ وسلوكيات حتى يصبح جزءاً منا، بل جزءاً متطلِّباً ملّحاً يرغب بالتعبير عن نفسه، فيُلغي على قلته كل الخير الكثير..

هل الشرّ أقوى من الخير؟

حسب علوم اللاهوت، فإن الله غالب. والشيطان وإن لم يركع لرب العالمين، فسيأتي يوم ويركع فيه.. هكذا تبشّرنا الديانات السماوية.

ورغم علوم اللاهوت، إلا أننا لا نزال نتعامل مع الشرّ على أنه الأقوى.

لذا نخاف الشريرين، وفي الصلاة المسيحية نختم قائلين:

– ربّي نجنا من الشرير آمين.

وفي أي صلاة إسلامية، نستعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. وكأنّ وجوده ثابت.. وكأّن الشرير صاحب نفوذ وسلطة فنذكره في كل الصلوات الرئيسية!

لمَ لا نقرّر أن الدنيا بخير رغم كل ما يحدث؟

ولمَ لا نكون متأكّدين وبشكل قاطع ومُثبتٍ أنّ الشرير ينكسر مثل لوح الزجاج ويصبح مليون جزئية إن تجاهلناه وواجهناه بالخير فقط؟

لمَ لا نتمرّن على تذكّر أهل الخير بل الإكثار من ذكرِهم، لأنهم النعمة التي علينا أن نحدِّث بها؟

ألا يرسم لساننا حقيقة الإنسان الذي يجي أن نصبح عليه؟

فإن كان لسانُنا حصاننا، فلنحصِّنه بعدم ذكر من يلغيهم الزمان ويطويهم أذلاءٌ صغار منكوبون نتيجة أعمالهم ولو بعد حين..

ما أكثر الذين أحسنوا إليّ.. وما أغلاهم.. أتذكّرهم كل اللحظة وليسقط كلّ الشرّيرين وصنّاعِهم وصناعتهم..

طالما أن ذاكرتي تميل إلى البياض الأعظم.. طالما أن الخير أقوى.

نضال الاحمدية Nidal Al Ahmadieh

Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار