لا أعرف كيف أصنع قهوتي الصباحية، ويتولّى الأمر روني في الشقّة الفخمة، التي انتقلْنا إليها في سان فرانسيسكو خلال رحلتي الأخيرة لأمتّع قلبي برفيق روحي، وينقلب على ظهره من الضحك قائلاً:
* نضال الأحمدية، أُضرب وإطرح، و«ما بتعرف تعمل قهوة»؟! ألم تتطوّري يا أمي؟
ويتابع في ازدرائه:
* أقترحُ عليكِ اليوم أن تطبخي لنا البيض؟ والله يا أمي، ستكسرين أظافرك، وتحرقين أصابعكِ، ولن نأكلَ، بل سنستدعي سيارة الإسعاف.
ويتابع الرجل الصغير، وهو غارق في سريرهِ، ويقول:
* كيف تعيشين هكذا، وأنتِ لا تجيدين صناعة شيء سوى الكتابة؟
وأجيبهُ:
– ربما لهذا لا آكلُ، ولا أشتهي!
وتتغيّر ملامح وجه رجلي، فيصبح جاداً، ويقول:
* لا، ماما.. حكاية امتناعك عن الأكل وافتقادك للشهية تخيفني. لا يعقل أنّك بكلّ هذا العطاء، ولا تأكلين، بل تعتمدين على حبوب الفيتامينات. أخاف عليكِ، لقد خسرتِ الكثير من وزنكِ، وهذا العام تبدين أصغر من العام الماضي.
وما أن سمعت بأني هذا العام أبدو أصغر من العام الماضي، حتى وقفت على السرير بفستان نومي، وبدأت بالقفز، أترنّح من الفرح، ثم أستدير باتجاهه، فأجده غارقاً بالضحك عليّ حتى الدموع:
– كنتَ تعيّرني البارحة بأنّي “ختيارة”، واليوم تعترفُ أني أصغر من العام الماضي. يا لصّ، لقد أزعجتني البارحة، لا أريد أن أصبح ختيارة!
* لمَ أنتنّ النساء تخفن من العمر، ماما؟ كل النساء حولي يعشن العقدة ذاتها!
– لن أجيبَ بحرفٍ قبل أن تصنع لي قهوتي! وقال يمعن في لعبتهِ:
* كم تدفعين؟
– ولمَ أنتم الاميركيون لا تفعلون شيئاً، إلا وتطلبون مالاً مقابله؟
* لن أخبركِ، قبل أن تجيبي على سؤالي!
– القهوة أولاً!
* الجواب أولاً!
قفزتُ من سريري باتجاه المطبخ مصرّة على صنع القهوة بنفسي، محاوِلةً استفزاز الرجل الصغير، راغبة في الإستغناء عن خدماته. فلحقني بهدوء، ووقفَ يتفرّج، وفي وجهِهِ علامات النصر المسبق.. صنعُ القهوة في أميركا غيره في لبنان.
آلة صنع القهوة معقّدة هنا، وممتلئة بالأزرار، إنها تشبه كابين طيارة، أخالها آلة كومبيوتر جديد تحتاج إلى دورة تخصّص.. أفكّر في قلبي ما العمل؟ كي أبدو قوية ومستغنِية، وروني ما زال يتكئ على حافة الباب، يراقب بخبث ويزم شفتيه.
رحتُ أحضّر الماء وظرف القهوة، وأنا أدندن أغنية: If I were a boy، ويراقب روني بدقّة، فأكبس على أحد الأزرار دون تحديد، متكّلة على الله، بل متعمّدة القيام بأيّ حركة تشير إلى شطارتي. وأسمع صوتاً هادراً من الآلة، فأركض مذهولة، أصرخ:
– إفعل شيئاً يا صبي!
روني يضحك، ويلتوي كلّه محاولاً التماسك.. يتفرج عليّ، وبعدم مبالاة، يكبس على زرّ ما، فيتوقّف الصوت، وآخذ نفساً، وبعدها أصرخ:
– يلعن القهوة، لا أريد قهوة ولا سيجارة ولا «متّي».. حتى القهوة حُرِمتُ منها في هذه البلاد الغبيّة! يمنعون السيجارة في الشقق والفنادق من أجل الصحّة العامة، ويملأون الشرق بدخان الصواريخ ودم الأطفال، وهذه صحّة بنظرهم! لا أريد قهوة.
بعصبية أمسكتُ ما كان قريباً لي، وكسرته. وصرخ روني مذهولاً:
* ماما كسرتِ وعاء كريم وجهك؟
ما صدّقت ما فعلت.. كريماتي مصونة الكرامة عندي، مثل الورقة والقلم، كيف أفعل ذلك؟ دخلتُ الحمام، وأقفلته عليّ كي لا أعرِض ذهولي وانكساري أمام إبني. كنت أسمع ضحكهُ يفرقع في أجواء الشقة، ثم يطرق الباب، ويقول:
* هذه المرة أسامحك، ولن أطيل «زربكِ» في الحمام، أخرجي!
ملأتُ وعاءً بالماء الباردة، وفتحتُ الباب بهدوء، وقلبتُ الوعاء فوق ما تمكّنت من جسد رجلي الصغير، فراح يقفز مقهقهًا.
جلست على الكنبة.. وضعتُ ساقاً فوق ساق أهزّ العليا، وأشعلتُ سيجارة، ونفختُ باتجاه آلة الإنذار، مخالفة القوانين بل متحدّيةً إياها وإياه، فصرخ روني يسرع باتجاهي، ينقلب بجسده عليّ، يعاركني ليأخذ مني السيجارة، ويتعهّد بأنه سيصنع قهوتي في لحظات، وأنه لن يبتزّني بعد الآن.. فرحت أقاوم، وأغنّي بما تبقى لي من نفس، ويحاول، وأقاوم، إلى أن انتصر وأخذ مني السيجارة، ووقف ينظر إلى جهاز المراقبة «الأهبل» أي لم يطلق صفارته، أي لم يشِ بي، وقال بصوت منهَك:
* هل الجهاز معطل؟!
أعجبتني الفكرة، فخطر ببالي أن أقول:
– نعم، عطّلته بنفسي في الليل، حين كنتَ نائماً.
نظر مستغرباً كمن لا حيْل له، بل قطّب جبينه، وزمّ شفتيه كي لا يضحك، وقال:
* تعرفين كيف تعطلين جهازاً معقّداً، ولا تعرفين كيف تصنعين قهوتكِ؟ ماما.. أنتم في لبنان يا ويلاه!
أشعلتُ سيجارة ثانية وقلبي يرتجف من الخوف، لأنّي كنت أكذب على ابني. أنا ما عطّلت شيئاً.. هو الجهاز رحمني، ولم يقم بدوره كمخبر بزموره لأنه كان معطلاً. رحت باتجاه النافذة ألتهم السيجارة التي تصبح أطيب بكثير، حين تكون ممنوعة. وروني دخل المطبخ يصنع لي القهوة بالآلة «المصيبة»، وأنا أتفرج على الطرقات السانفرانسوسكية، على القاصي والداني، من أسود، أبيض، أحمر، أصفر.. كلّهم أميركيون لا تجمعهم إلا الحاجة للإنتماء، وعاد روني يحمل القهوة، ويقول:
* اجلسي ماما، وأخبريني كيف عطّلت الجهاز؟!
رحتُ أكذب، فأنظرُ إلى الآلة، أعلى الجدار، وأقول أي كلام، وأشرب القهوة ثم أتوقّف وأغنّي، وأرفع صوتي عالياً من الشبّاك، فيرجوني ألا أزعج الجيران، وأقول:
– ماذا سيفعلون؟ هل سيشكونني للبوليس مثلاً.. أنكر وأطلب أن يقدموا دليلاً؟
يضحك روني، وأغنّي، ثم أتابع في الشرح عن طريقة تعطيل الجهاز، إلى أن شربتُ القهوة، ودخنت ثلاث «سواجير»، ودخلتُ الحمّام لأسبح في «البانيو»، وكنتُ عرفتُ أن روني لم يصدّقني، فقال:
* والآن من ينظف ثيابي؟
فأجبتُ:
– أنشرها عند الجيران!
لا مناشر عند «الأمريكان».. نحن، فقط، من ننشر الغسيل، وننشر بعضنا، كلما دقّ كوز اليهود بجرّة الليطاني؟!
نضال الاحمدية Nidal Al Ahmadieh